مجلة العودة

عندما يتحدّث "أبو مازن"


ماهر شاويش


عندما يتحدّث السيد أبو مازن، يضع الفلسطينيون أياديهم على قلوبهم. ففي أحاديثه الإعلامية ومقابلاته الطويلة، تنفلت الكلمات في اتجاهات طائشة.

طويلة هي المتوالية التي تعاقبت في تصريحاته عبر سنوات عشر، تضيع فلسطين في حصيلتها، ويتبخّر المشروع الوطني برمّته، ويَمرُق صانع القرار من مسؤولياته نحو القضية التي صعد على أكتافها.

خرج ذات مرّة، وقد كان رئيساً للوزراء، لينبري في خطاب رسمي للحديث عن "عذابات اليهود عبر التاريخ"، من دون أن يتطرّق إلى عذابات شعبه.

وبعد أن تولّى الرئاسة، اتسع الخرق على الراقع، حتى إنّ سفن كسر الحصار تهكّم عليها ووصمها بنعوت بائسة، متحدثاً عن "لعبة". حصل ذلك قبل أن يبرهن أسطول الحرية أنّ هذه القوارب فرضت حقائق جديدة على كيان الاحتلال وحضوره الإقليمي وصنعت حدثاً عالمياً.

وصواريخ المقاومة التي كال بحقِّها الأوصاف الرخيصة، وعدّها عبثية، هي ذاتها التي أعادت رسم موازين القوى وبدّدت منظومة أمن الاحتلال وضربته في أعماقها، بينما انهمكت أجهزته الأمنية في تكليفات التخابر مع الاحتلال تحت عنوان "الارتباط" و"التنسيق الأمني".

وفي فيض تصريحاته، لم يتوانَ أبو مازن عن الإفصاح عن انصياعه لحواجز الإذلال التي يقيمها المحتلّون في أرجاء الضفة الغربية، شارحاً ذات مرّة الكيفية البائسة التي يجتاز بها المعابر كلّما أراد المرور في أرجاء الضفة الممزّقة.

وإذا ما أتت التصريحات على فلسطين وقضّيتها ومفاصلها الكبرى، فإنّ لانفلات الكلمات عواقب وخيمة. تتتابع تصريحاته التي تزهد بفلسطين، أو تضحِّي بحقّ العودة، بل تهزأ بصفد، التي يتحدّث عن زيارتها وكأنها بمثابة ارتياد مطعم للوجبات السريعة.

ومن حقّ الفلسطينيين أن يُطلقوا العنان لخيالاتهم الخصبة في تقدير المضامين التي يبوح بها رأس السلطة الفلسطينية، وقمة الهرم في منظمة التحرير، في الأحاديث التي تكتمها الجدران والأبواب الموصدة.

وعموماً، عندما يتحدّث أبو مازن فإنه يمارس هواية نثر اليأس في البيدر الفلسطيني، ينثره بكلماته، ويبعث بها بقسمات وجهه التي تتخلّى عن عبوسها المُزمِن عندما يلتقي الأميركيين أو الإسرائيليين. وتأتي كلماته في كلِّ مرّة لترسم التساؤلات عن الوُجهة التي سعى إليها "مهندس أوسلو" في مفاوضاته المزمنة مع حزمة حكومات تعاقبت على كيان الاحتلال.

أمّا عندما يتحدّث أبو مازن للإسرائيليين، عبر صحفهم ومحطاتهم، فإنّه يتصرّف وكأنّ شعبه لا يسمع ولا يلحظ. فتصريحاته تحفل بقرائن التودّد للاحتلال وجمهوره، وتقابلها ترسانته اللفظية القاسية التي خاض بها غمار الانقسام في البيت السياسي الفلسطيني. لقد وصف أشقاء الساحة الفلسطينية مراراً بالانقلابيين والقتلة والظلاميين، وبنعوت شتّى طواها الزمن، وغابت هذه المفردات أو ما يكافئها في حديثه عن الاحتلال وقادته وجنوده عبر عقدين من الزمن.

ليس مسعانا في هذا المقام أن ننكأ الجراح، فلهذا العرض مناسبتان: أولاهما القصف اللفظي الذي خرج به أبو مازن أخيراً في حديثه لقناة عبرية، وأهدى خلاله معظم فلسطين إلى ما سمّاها "إسرائيل"، وتنازل فيها بوضوح عن حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم وديارهم. وما يزيد من خطورة الأمر أنه جاء قبيل التوجّه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة للاعتراف بدولة فلسطينية منقوصة العضوية. ومثل ذلك لا يجوز الصمت أو غضّ الطرف عنه، بل تجب المساءلة والمحاسبة.

والمناسبة الثانية لهذه المرافعة، هي الانتصار الذي حققه الشعب الفلسطيني في معركة غزّة الأخيرة (حرب الأيام الثمانية). فقد فرض هذا الانتصار حقائق جديدة في توازنات الصراع مع الاحتلال، وأكّد أنّ انكسار الشوكة الإسرائيلية لم يكن متاحاً إلا بالمقاومة، لا بنهج ترسم معالمه كلمات السيد عباس المعتادة، التي لم يعد بالإمكان التساهل معها أو التهاون مع منطقها الاستسلامي.

نعم، حصل التحرّك الجديد في الأمم المتحدة، وهو تحرّك مرحّب به إذا كان خطوة على طريق التحرير؛ لا أن يكون نهاية المطاف. ومن حقّ الشعب الفلسطيني وهو يعيش ربيع الشعوب أن يردّ على أي تصريحات قادمة من أي مسؤول فلسطيني بما يستأهلها، وما كان يسع أبو مازن الثرثرة فيه من قبل؛ لا يمكن السكوت عنه بعد الآن. ♦