مجلة العودة

"الهولوكوست" من منظور فلسطيني

"الهولوكوست" من منظور فلسطيني
 
 

ظلّ "الهولوكوست" عنواناً لاضطراب التناول والخطاب؛ فلسطينياً وعربياً. وتتجلّى أقطاب التجاذب بين من ينشغلون بنفي وقائع الحرب العالمية الثانية، ومن يندفعون إلى مسيرات "طأطأة الرؤوس" التي تمضي تحت أعلام الاحتلال.

لن تخسر فلسطين إذا ما ندّدت بالنازية وما اقترفته، بيد أنّ الرصيد الأخلاقي يتآكل لدى من يقف في خندق الدفاع عن النازي وتهوين جرائمه بحقّ الإنسانية، وما ألحقه بضحاياه من أطياف عدّة. لكنّ معضلة فلسطين أساساً، هي في استعمال ملفّ "الهولوكوست"، كائناً ما كان شكل الملفّ وحجمه وتفاصيله، وتوظيفه ذريعة للعدوان على شعبها واستباحة تاريخها وحاضرها ومستقبلها.

لا طائل من انهماك أصوات فلسطينية بنقاش وقائع حروب أوروبا الداخلية، أو حتى الانسياق لمنظِّري المراجعة التاريخية لملفّ "الهولوكوست"؛ فتلك صفحات تاريخ أوروبية دفع شعب فلسطين أثمانها مباشرة وما زال يتكبّد كلفتها. لم تكن فلسطين صانعة الوقائع، ولم يكن شعبها ضالعاً في الجريمة؛ بل هو ضحيّتها أيضاً؛ وإن لم تعترف بذلك الجمهرة.

إنّ العدوان القاتل على نفس واحدة هو جريمة، ومن قتلها فكأنّما قتل الناس جميعاً. بهذا فإنّ التباري بالمقولات العدديّة عمّا اقترفته النازية يفقد مغزاه. فمن يُبيد مئات الآلاف لن يتورّع عن الفتك بالملايين؛ إذا ما أوتي القدرة على ذلك. صحيح أنّ الرواية الصهيونية مضت إلى وسم أفعال النازية بالفظاعة الأكبر في التاريخ، أو الواقعة المتفرِّدة ماضياً ومستقبلاً؛ لكنّ ذلك لا يُسَوِّغ انزلاق أصحاب الموقف الأخلاقي والقضية العادلة إلى خانة من يستهين بأرواح الضحايا أيّاً كانوا؛ قلّ عددهم أو كثُر، وكأنّ المطلوب هو التماس صكوك البراءة لهتلر وأشياعه.

إنّ موضع النقاش الجوهري، في السياق الفلسطيني لتناول هذا الملفّ الشائك، ينبغي أن يتركّز على فكِّ الارتباط بين ضحايا العهد النازي ومشروع احتلال فلسطين. فلا غنى عن تأكيد الموقف؛ بعدم جواز السماح باستخدام آلام الضحايا، أيّاً كانت أسماؤهم أو أديانهم أو مشاربهم، ذريعةً للعدوان، ولا يُسوّغ استعمال معاناة البشر، والزجّ بمآسيهم في التعدِّي على أشقائهم في الإنسانية في أيّ من الرقاع. فالحلقة الأهمّ في المسألة، هي نزع الشرعية عن النهج الاستعمالي بحقّ طابور الضحايا الذين أُبيدوا خلال الحرب العالمية الثانية، وتشديد النكير على توظيف ورقتهم في اقتراف جرائم حرب أخرى وانتهاك حقوق الشعوب غير القابلة للتصرّف؛ على النحو الذي عرفته فلسطين وما زالت تشهد عليه.

ويَجِد الفلسطيني في المنفى الأوروبي، من يَبرُز له في هيئة المتعاطف، حاملاً بنبرة عنصرية على "أولئك اليهود" ما صنعوه بحقّ فلسطين. يُجدُر أن يُقال لأولئك "المتعاطفين" قولة الحقّ، بأنّ أوروبا ابتداءً هي التي حاكت القصّة وتستّرت عليها، بمعنى أنّها من ذبح شعب فلسطين، ونكَبَه، وشرّده، وهي التي هجّرت الملايين من البشر عنوة إلى شرق المتوسط وواصلت إسنادهم. حريّ تذكير القوم، بأنّ الصهيونية لم تفلح في كسب جمهرة اليهود إلاّ بعد إطلاق دعاوى الطرد الأوروبية بحقِّهم وإعمال الذبح فيهم. ينسى بعضُهم اليوم تفاصيل الوقائع، ومنها أنّ بعض متعصِّبي ألمانيا وزّعوا قبل النكبة بعقديْن، تذاكر سفر افتراضية، كتبوا عليها: "تذكرة مجانية إلى القدس، في اتجاه واحد، تُصرف لأيِّ يهودي كان من أي محطة قطار ألمانية". تلك وشبيهاتها كانت من بواكير النكبة، التي ما زالت تتفاعل. 

وتتفرّع الملفّات عن هذه القضية، ومنها مثلاً ملفّ التعويضات عن وقائع الحرب العالمية الثانية. لا جدال في أنّ التعويض، من حيث المبدأ، مكفول لمن سُلب حقّه؛ لكنه لا يكون تعويضاً إلاّ بإسدائه لصاحب الحقّ ذاته، لا إلى من يَستعملون قضيّته ويتصرّفون كوكلاء للضحايا؛ من منظّمات منشغلة بالاحتلال ومنهمكة بإسناده والترويج له. ولا يصحّ أن يغدو التعويض إغداقاً للعطايا على الوالغين في الدم والمُسرفين في الإثم، من قادة العدوان على فلسطين، ولا أن يكون بتقديم الترضيات لهم؛ على هيئة غوّاصات نوويّة مثلاً. ثمّ إنّ التعويض يكون أساساً بمنح الناس ما سُلب من أملاكهم وأراضيهم وبيوتهم، وتمكينهم من استئناف حياتهم في سياقاتهم التي كانوا عليها في قلب أوروبا؛ بما يمكِّنهم مع ضمانات أخرى مطلوبة، من عودتهم إلى بلادهم التي انتُزِعوا منها قسراً؛ أي ألمانيا، والنمسا، وهولندا، وبولندا، وأوكرانيا، ولتوانيا، وسواها في مغرب القارّة ومشرقها.

إنّه المفهوم النقيض لما روّجته الصهيونية وشَرْعَنه كيانُها باسم "قانون العودة اليهودي". وهو أيضاً المفهوم المتصالح على أيِّ حال، مع منطق الحقّ والعدل والإنصاف، علاوة على انسجامه حتماً مع حقّ الفلسطيني في العودة إلى أرضه ودياره واستعادة أملاكه وأراضيه وبيوته، دون قيد أو شرط.