مجلة العودة

تحت الخيمة: عقـدةٌ وجـوديّـة - حسام شاكر

عقـدةٌ وجـوديّـة

حسام شاكر

امنحونا حقّ الوجود!.. اعترِفوا بنا!.. اكتبوا روايتَنا في كتبكم!.. أقِرّوا بهويّة دولتنا!

قد تصلُح هذه المصفوفة لترجمة مشهد العبث الذي يدور على المسرح منذ سنوات بعيدة. أليست هي الرسائل التي يعود بها أولئك المُنسَلُّون من الوطن، من مُطاردي السّراب في جولات التفاوض المتعاقبة؟ يذهبون بأمانيّ الإنجازات؛ ويعودون بفيضِ الإملاءات!

في ذروة الصّلَف الذي بلغته عقيدة التفاوض الإسرائيلية؛ تتجلّى العقدة الوجودية المتأصِّلة لدى مشروع الاحتلال. تُستَجدى الشرعية من الشعب مسلوب السيادة والمحروم من تقرير مصيره، فيُطلَب من الضحية إذاً أن تعترف بالجاني.

تُخرَق القواعد وتُنتهك النُّظُم والأعراف الدولية، بأن يُلتمس من شعبٍ الاعترافُ بهويّة كيان مُغايِر؛ فضلاً عن أن يكون الكيان ذاته الذي اقترف النكبة واستأنس بالقضم التدريجيّ للأرض والتشريد المتواصل لساكنيها. يُلتمس الاعتراف من الذين يُحرَمون حتى من وصف الشعب، فهم مجرّد «فلسطينيين» في رواية الاحتلال ومسانديه.

لا يرتوي عطشُ المحتلّ من كؤوس التنازلات المُغدَقة له بلا محاسبة شعبية فلسطينية، منذ خَرق الاعتراف الضمني به في «إعلان الاستقلال» الفلسطيني، ثمّ ما صرّحت به واقعة «الاعتراف» في بواكير خريف أوسلو. فما هو أبعد من ذلك؛ أنّ مشروع التسوية المطروح يستبطن احتواءَ المستقبل الفلسطيني بالهيمنة على مصائر الأجيال القادمة من هذا الشعب. فصكوك التسليم الكامل بالتاريخ والإذعان للحاضر الاحتلالي؛ يُراد له أن ينسحب على الآتي بتأبيد الاحتلال وإخضاع الذراري الفلسطينية له.

أمّا من ينسلّ من الالتزامات المغلّظة التي فرضتها اتفاقات جائرة؛ فعليه أن يدفع الثمن باهظاً، ويتجرّع السموم التي يكتوي بنارها أبناءُ الشعبِ ذاته، وإلاّ فلِمَ كان حصار غزة، وتجويع أطفالها، والفتك بمرضاها؛ سوى الإرغام على الاعتراف بشرعية الاحتلال، وفقاً لإملاءات «الرباعية» على الأقلّ.

إملاءات الاعتراف بمشروع الاحتلال تفضح أزمته مع المستقبل، الذي لا يبصر أيٌّ من راسمي الاستراتيجيات آفاقَه بوضوح، أو يسعه الجزم بمستقبل آمنٍ له. لكنّ الهرولة إلى انتزاع ضمانات مُستقبلية، لن تشفي غليل القلق الوجودي على هوية الكيان العنصري، الذي يتقلّص فيه النقاء العرقي المزعوم.

ثمّ إنّ الاحتلال يسعى إلى قطع الطريق أمام حقّ العودة الفلسطيني، بانتزاع إقراراتٍ وتعهّدات على طاولة التفاوض، لكنّ معضلته هي أنّ هذا الشعب لن يمنح أبداً شرعيةً لأيٍّ كان؛ في التجرّد من الحقوق الثابتة.

ويبقى أنّ أقوى ما يملكه الموقف الفلسطيني هو قوّة الحقّ، ومن لم يتنازل عن حقه ثلثي قرن فما الذي يرغمه على أن يفعل بعد ذلك؟!. ومتى تجرّد الرسميّون من ثوابت شعبهم؛ فإنّ عليهم الانصياع لغطرسة القوّة، وتقديم قرابين الاسترضاء المُقتطعة من الحقوق الثابتة غير القابلة للتصرّف. بهذا لا تكمن المشكلة في تصريح مجرّد أدلى به أحدهم على قارعة التفاوض، استجابة لإملاءات «يهودية الدولة»؛ بل المعضلة ينضح بها السياقُ الذي تفرّعت عنه التفوّهات.

ما ينبغي التذكير به في هذا الموسم أيضاً، أنّ استجداء الاعتراف وحقّ الوجود والإقرار بهويّة الكيان؛ هي البرهان المتجدِّد على أنّ فلسطين هي التي كانت، وأنها التي ستكون حتماً، وأنّ شعبها هو الذي يمسك بزمام القضية في نهاية المطاف، ويمنح الشرعيّة. أمّا أولئك الذين اقترفوا السطو المشين على الجغرافيا والتاريخ؛ فلن يأمنوا بما سلبوه، وإن طال بهم العهد أو تكاثرت بين أيديهم القرابين. هم الطارئون حقاً، ولعقدتهم الوجودية ما يبرِّرها.♦