مجلة العودة

ثلاثة .. اثنان .. واحد

حسام شاكر

جولة اقتراع جديدة في مجتمع الاحتلال، كُتِب على ورقتها الرابحة: "هناك مستقبل" (يِش عَتيد).

صعد أحدهم، منزوع الخبرة، وخارجاً عن الوصف والمعنى، فأزاح أكبر الأحزاب من طريقه، وتقدّم على منافسيه من الجنرالات والمُخضرَمين ومُحدَثي السياسة. صعدت بهذا الوجه التلفزي أصواتُ الناخبين المجرّدين من الأمل، الذين صدّقوا على ما يبدو أن لا مستقبل مع غيره.

هي المرّة الأولى التي يُفصِح فيها القلقُ الوجودي عن ذاته على هذا النحو، فالمراهنة تجري الآن على مستقبل الكيان عينه؛ يكون أو لا يكون.

انتخابات ألفين وثلاثة عشر قد تدخل التاريخ باعتبارها إيذاناً بالعدّ العكسي، أو إفصاحاً عن التحوّل العميق تحت السطح، أو إحساساً بجسامة المتغيِّرات في المحيط الجارف. ومن حقّ الذين صوّتوا ليائير لبيد، ومنحوه حصّة سخيّة من مقاعد "الكنيست"، أن يقنطوا من المستقبل برمّته إن أخفق مقدِّم البرامج في تحقيق وعوده.

بواعث عدّة تقف وراء هذا التحوّل. لكنّ الخوف الوجودي يرتبط أيضاً بعوامل اقتصادية واجتماعية، خلاصتها أنّ مشروع الاحتلال لم يعد يدرّ لبناً وعسلاً كما يأمل القوم. من حقِّ الذين جيء بهم أو بآبائهم من أقطار الأرض أن يفكِّروا بخيارات معاكسة لو تبخّرت الجدوى. من حقِّهم أن يتحسّسوا مستقبلهم في فلسطين لمجرّد إحساسهم بالقلق الاقتصادي والاجتماعي. لكن ما عساهم أن يفعلوا لو أبصروا أنفسهم على شفير الهاوية أسوة بأمم سبقتهم تاريخاً واقتصاداً وتكاد اليوم تخرج من التاريخ؟ وكيف سيتصرّفون لو تضاءلت أعطيات المانحين السخيّة لعجلتهم الاقتصادية الدوّارة وانهارت مؤشِّراتهم في السوق؟

حزمة أخرى من الدلالات أفصح عنها الاقتراع. فمع التشكيلة الجديدة في برلمان المحتلِّين تأكّدت حالة العجز القيادي التي تنتاب الكيان منذ زمن. توازنات هشّة في البرلمان والحكومة مكرّسة لتصريف الأعمال وتزجية الأوقات؛ لا تصنع حسماً في الحرب أو التفاوض. مع هذه التركيبة يبلغ يأس الحالمين في الساحة الفلسطينية بتسوية سياسية ذروته، فلا أحد يرفع السمّاعة أساساً من الجانب الآخر ليلتقط رسائلهم. مرّة أخرى يتأكّد الاستنتاج المحمول من القرن الماضي: لا فرصة لأوهام التفاوض.

ثمّ إنّ التصويت لصالح "هناك مستقبل"، جاء مشفوعاً بخبرات جديدة من الميدان. فالجيش الجرّار الذي يلتهم الميزانيّات الضخمة عجز قبل أسابيع عن حسم مواجهة موضعية ثانية على تخوم غزة، فاستجدى التهدئة مع تساقط الصواريخ في الأعماق كالمطر. لم ينجح جيشهم في سحق الشعب الفلسطيني وجيش المقاومين، ولم يفلح في حماية "الجبهة الداخلية"، رغم كلّ ما حظي به من إمداد وإسناد. أحجم الناخبون، أو بعضُهم، عن مقولات الأمن والدفاع المُستلَهكة طويلاً؛ إلى شواغل جديدة يستشعرون وطأتها في جيوبهم ومساكنهم وموائد طعامهم. فقدت الجمهرة ثقتها بالبزّة العسكرية وحاملي الشارات والألقاب من طابور العاجزين، فانصرفوا إلى وجوه الشاشات ومقدِّمي النشرات، علّهم يسمعون أخباراً سعيدة في نهاية يومهم، قد يأتي بها لبيد وأشياعه.

جولة الاقتراع هذه لن تكون الأخيرة على الأرجح، بيد أنّها تُظهِر ارتباكاً في عمق المشروع، وانهياراً في مؤشِّرات مستقبله، وحيرةً في جمهرة الكيان التي بات مضطرّة للتفكير في المآلات. فجدوى الاحتلال تتضاءل، والمقاومة الفلسطينية تواصل الاستعداد لجولات أخرى مع الكيان المأزوم في ميدان المواجهة، والدويلة الصغيرة المُستزرَعة في قلب المنطقة تحيق بها تطوّرات جارفة من كلِّ صوب تنسج الشكوك حول الفرضيات الثابتة.

هو العدّ العكسي للاحتلال، وإن كان يائير لبيد صادقاً مع ناخبيه بحقّ، لوجب عليه أن يكتب على اللافتة: هناك مستقبل .. لفلسطين.