مجلة العودة
جولة مع المحتلّ
 
 
حسام شاكر

يمشي في المدينة، مختالاً فخوراً، لا يستوقفه منزل قديم أو جدار متداعٍ أو مئذنة مهجورة. يقطف الثمرة، يقضمها، تستقرّ في أحشائه، ولا يسأل عمّن غرس الغراس العتيق بكدِّه وعرقه. يجلس على الكرسي، ولا يجول بخاطره من صنعه، أو من أراحهم مِن قبل. يؤرِّق منامَه طفلُ المخيم وهو يلوِّح بالمفتاح، وأجيالٌ مفعمة بالإرادة تتحدّث عن البلدة والديار، ولافتات تعلن التشبّث بالعودة.
إنّه المحتل. رأسه محشوة بمقولات عن سنين معدودة بالآلاف، ووَعيُه يطمس أحقاباً من التاريخ الحيّ والأمس القريب. ولأنّه يحيك تاريخاً يروق له على هذه الأرض، فإنّه يصطنع التفاصيل بعناية لتنسجم مع الأسطورة. فجدران البرلمان الذي تتقاذفه العنصرية، منحوتة كجدارية مستلّة من التاريخ. وبيوت المستعمرين الذين يتسيّدون التلال المسروقة، تُشرِف نوافذها الكبيرة على الأرض الموعودة، لتمنح كلّ صباح رشفات الهيمنة وجرعات الاستعلاء للعالقين في وَهمهم.
إنّه المحتلّ الذي يرى ذاته مركزاً للكون، ومحوراً للخليقة. علاقته بالله ملتبسة ومضطربة، أو يصعب فهمها. فهو شعبه المختار، وإن كان لا يؤمن به. هو قريب من الله، وكأنّ الله موجود له حصراً، أو لعلّه ذاته الربّ في هذا العالم. فمن يمسّه من قريب أو من بعيد فكأنّما يمسّ الذات الإلهية، وأنّى له الغفران.
يرى نفسه الضحية بين العالمين. الضحية التي تُروَى قصّتها في كلِّ عيد: "حاولوا قتلنا .. ولكنّنا نجونا"، هي الرواية التي تتكرّر في أعيادٍ لا تُحصَى. هو الضحية التي يتآمر عليها جميعهم منذ الأزل، يتآمر عليها الشرق والغرب، ومنهم الأوروبيّون الذين ينتقدون البناء في المستوطنات، وأوباما الذي خرج إلى العالم من صُلب رجل اسمه حسين، والقاضي غولدستون، الذي لم تشفع له يهوديتّه فشُبِّه بهتلر قبل عودته إلى الحظيرة تائباً.
كُثر أولئك الذين لم تشفع لهم يهوديّتهم: متحدِّثون بلغة الحقوق والعدالة، باحثون في التاريخ المعاصر كتبوا بإنصاف، أساتذة في الجامعات خلعوا عن كواهلهم رداء الصهيونية، ونفر من أهل الرأي والقلم أنصتوا لضمائرهم. جميعهم متآمرون أيضاً.
أجل .. هو الضحية التي تضع "الشواه" (الهولوكوست) في صميم وَعيِها، وتصرّ على تصنيفها مظلمة فريدة في تاريخ البشر، لا نظير لها من قبل ولا من بعد. إنها الشعار والذريعة، وهي المنهاج والرواية، وهي القصّة التي تُروَى كلّ ليلة، فتحيل القوم في يقظتهم إلى مسٍّ جماعيّ، يسمّونه البارانويا، وأمارته أنّ "العالم كلّه ضدّنا".
لا صوت يعلو فوق صوت التهديدات والمخاوف. ولأنّ الضحية تستشعر التهديد، فإنّ أصبعها رشيقة على الزناد، أو توشك على الضغط على أزرار الفتك بالآخر، ذاك الذي يمسّ الربّ متجسِّداً في شعبه المختار، وإن كان لا يؤمن به. ولأنّ الساسة يحذقون اللعبة، فإنهم يرفعون درجات التهديد في مواسم الاقتراع، ويسوقون الجمهرة مرتعدة الفرائص إلى الصناديق في أيّام الحسم.
وفي المشهد تفاصيل أُخَر. تفاصيل عن جموع اجتذبتها "أرضُ اللبن والعسل"، حفظت المقولات عن ظهر قلب، وأدركت أنّ أقصر سبل البرهنة على الانتماء هي الوصفة العنصرية. لعبةٌ أدركها روسٌ ومغاربة ليقنعوا أنفسهم بالانتماء إلى مجتمع المستوطنين، وليلتحقوا بركب الغربيِّين الذين صاغوا المشروع ووضعوا معالمه. إنه الإصدار الصهيوني الخاص بأفيغدور ليبرمان وعوفاديا يوسف ومَن والاهما، قوامه الشتائم والعنجهية الفظّة.
ولكنّ المنشغلين باللبن والعسل منهمكون بحلب البقرة المقدّسة لا بعبادة الربّ، فتسعى صفوتهم إلى الإثراء السريع وانتهاك الوصايا التي حيكت لمجتمع المستوطنين، فيتعاقب الرؤساء والوزراء وأعوانهم على المحاكم والسجون، لأنّ أياديهم أطول ممّا ينبغي ومسالكهم أوغلت في الخطيئة مع شركاء المعبد. إنها فرصة لكيّ الوعي، وإدراك أنهم ليسوا قريبين من الله، وأنّ علاقتهم بهذه الأرض ملتبسة حقّاً.
ولأنّ العلاقة بهذه الأرض ملتبسة، فإنّ التضحية لأجلها وجهة نظر لم تتمّ البرهنة عليها. تقول الاستطلاعات إنّ الرحيل فكرة تخامر معظمهم. إنه خيارهم على الأرجح لو نضب اللبن والعسل، أو ارتفعت ضريبتهما، واختلط المذاق بطعم الدم. هو الدرس الذي لم يتعلّموه من تاريخ هذه الأرض، التي تعاقبت عليها الأطماع المشفوعة بالأساطير والمقولات، ورحل الطامعون عنها في كلِّ مرّة وهم يجرّون أذيال الخيبة. ♦