مجلة العودة

حسام شاكر : ملحمة التشظي

ملحمة التشظِّي

حسام شاكر
 
صولة جديدة من الحشد والتعبئة، جولة من التجييش والعسكرة. موعد مع مقتلة عظيمة، تتدحرج فيها الرؤوس، ويُهرَق فيها الدم، وتخور فيها القوى، ويُسحَق الناس، كثير من الناس.

هي ملحمة التشظِّي؛ إذ تأتي برهاناً على عبث الرهانات. جيوش ملأت السمع والبصر، استأثرت بالموارد واستنزفت الطاقات، لتبقى وفيّة لوظيفتها الجوهرية: الهيمنة على الداخل والانشغال بحروب الأشقاء. لم تكن جيوشاً للتحرير، ولا دروعاً واقية لشعوبها في زمن الهيمنة.

هي الجيوش التي لم تَحمِ الديار، بل قوّضتها، ولم تحرس الأجواء بل تركتها مشاعاً للعدوّ بغاراته وطلعاته في غفلة من "التوازن الاستراتيجي". طوابير جرّارة انشغلت بالوظيفة المركزية في حراسة الكرسي ومن استأثر به، فوجّهت مدافعها لتدمير الذات ودكّ المدن والبلدات بكلِّ ما أوتيت من قوّة، مديرة ظهرها للهضاب التي تعيش هدوءها المزمن في حضرة المحتلّ ومستوطنيه الآمنين، حيث يقطفون التفاح.

نجومٌ تهوي في ملحمة التشظي، تجارب تنقض غزلها من بعد قوّة، تختار وجهتها نحو الهاوية، تنسلّ من سيرة البطولة والصمود والمقاومة لتنغمس في دماء الأشقاء وتمزيق الأواصر والتأسيس لفصول المذبحة الآتية... على تخوم فلسطين.

في تناطُح الأشقاء، تُستخدَم فلسطين ورقة توت كما استُعمِلت من قبل، تُستَحضر ذريعة للعبث والفتك بمن حلموا بحريّتهم وكرامتهم. قيل في كلِّ صولة إنّ طريق القدس تمرّ بأشلاء العواصم، وإنّهم "قادمون يا فلسطين" بعد أن يفرغوا من الجولة.

في كلّ مقتلة كهذه سُعِّرت نار الحرب، وانخرطت الجموع في محرقتها بلا حسبان. هي قائمة طويلة من حروب العبث التي تجرّدت من المغزى. مئات الآلاف، بل ملايين الضحايا، سحقتهم في عقود قليلة، وخرّجت أجيالاً من محطّمي الأذهان والأبدان. حروب ومعارك بلا معنى، تعاقبت مشرقاً ومغرباً، على الضفاف والسواحل، في الجبال والصحاري، وحول حقول الزيت، في زمن التصالح مع العدوّ.

حروب كانت وبقيت، خضّبت جبين الأمّة وغمست أطرافها ببقع الدم. إنها أمّة تتجيّش لفصول متجدِّدة من التشظِّي. ترتفع الرايات في لعبة الانخراط الواسعة، تُساق شعارات محفوفة بمسوح القداسة إلى مقصد آثم، يمضون بها لإذكاء المقتلة العظيمة، بلا وجهة.

تُنسى فلسطين، كما نُسيت مراراً من قبل، تُترك القدس فريسة للقضم اليومي، ولا من ملتفت إلى الأقصى وقد آل إلى تقسيم مع البُغاة. كان يكفي القدس قسطٌ من هذه التضحيات، كان يفي بالمهمّة قدر محسوب من هذه الحشود والذخائر والأبواق. لم يدّخروا لها شيئاً، بل تركوها تُسبَى كلّ يوم. تغيب اللافتات والرايات ومسوح القداسة حيث قبلتها الأولى. تتعاقب الصواريخ والقذائف صوب أهدافها الخاطئة لتحرق الشعارات وتبدِّد المقولات.

مع مئة ألف من الضحايا في سنتهم الثالثة، تتحطّم الشام بلدة بلدة، داراً داراً، وتدور رحى القتل والتشريد، لتفتك بشعبٍ عاش فلسطين، عاش معها، وإلى جانبها، تطلّع إلى حريّتها وحريّته... ليبقى الكرسي وحارسه، ويبقى الاحتلال.