مجلة العودة

حسام شاكر: من الانسداد إلى الانعتاق

من الانسداد إلى الانعتاق
 
 
حسام شاكر
 
 
يصلُح الانسداد عنواناً لمرحلة فلسطينية استغرقت سنوات. سنوات تبعثرت فيها الرؤى، وتساقطت فيها شعارات، وتبخّرت خلالها وُعود، وتفاقم في ثناياها العبث.

فمشروع التسوية السياسية الذي تأسّس على استرضاء العدوّ والاستغراق في التفاوض، أفضى إلى خُسران مُبين. والدولة المستقلّة الموعودة من هيئة الأمم أهيل عليها التراب، ومعها مقولة "حلّ الدولتين" التي نظّر لها القاصي والداني. وعلى وقع الجرّافات التي تقضم الأرض وتهوِّد المقدّسات أدرك الجميع عمق المتاهة، من دون أن يكلّ الرسميّون الفلسطينيون عن تحرير صكوك البراءة من فلسطين الكاملة وحقّ العودة الذي يلخِّص القضية برمّتها.

أمّا مشروع المقاومة فحُوصر بمعادلات شائكة وحسابات معقّدة، بحَشْرها في غزة ونزع سلاحها في الضفة. وانتقل الظهير العربي من العجز والتقاعس إزاء فلسطين، إلى الانشغال بتحوّلاته التاريخية الكبرى مع الثورات وما بعدها.

وللانسداد في المشهد الفلسطيني الداخلي عناوينه المتفرِّقة: حكومتان لا حكومة واحدة، صفوفٌ من الوزراء في الجانبين، رئيسٌ لا يجتمع عليه الناس، برلمانٌ يأبى أن يلتئم، منظّمةٌ محمولة من القرن الماضي استهوتها البلاغات الفاترة بعد أن فارقت مهمّة التحرير، وطوابير من الموظّفين مكبّلون بالرواتب ومسكونون بالخشية المتأصِّلة على لقمة العيش.

ثمّ ألقى الاحتلال بهداياه المتفجِّرة على غزة ومخيّماتها. بعث إلى الفلسطينيين برسائل الموت والدمار، ولعلّه أرادها هزيمةً خاطفة لهم وانكساراً مريراً لإرادتهم وسحقاً شاملاً لمقاومتهم. سرعان ما انتصرت غزة، فشمخت الإرادة، وتصلّبت المقاومة. سبع ليالٍ وثمانية أيّام تكفّلت بفتح أفق جديد لفلسطين، وآذنت بانكفاء الاحتلال في مآلاته؛ قريبة كانت أو بعيدة. هو الاحتلال الذي لم ينتصر في معركة قطّ منذ عقودٍ خلت. وفي ظلال معركته الجديدة عادت فلسطين محوراً للأمّة، تختبر نَظْم الإيقاع وتباشر ضبط الأداء، عادت مستشرفةً مرحلةً جديدة.

بهذه التحوّلات نُفخت الروح في مسارات السياسة. فالتصويت لدولة غير عضو في هيئة الأمم، استحال من حيث لم تحتسب الجمهرة صكّاً بإخفاق التسوية وشهادةً بانحياز رعاتها إلى الاحتلال وإشارة إلى انفتاح أفق فلسطيني جديد لا يشترط افتراق السياسة عن المقاومة.

جرت المياه في الوادي، انسابت أخيراً، واجتاز الفلسطينيون منعطفاً ينفتح بهم على خيارات واعدة بالتحرير والعودة، أو هكذا يبدو. إنها الفرصة والتحدِّي في آنٍ واحد. فاللحظة التاريخية تقتضي تصويب الرؤية، واستجماع الإرادة، وإعداد العدّة، وحشد الأمّة، واستثمار المكتسبات، والتحرّك الفعّال عبر العالم، والاستعداد لمزيد من التضحيات.

هي فرصة لمن يريد أن يلتقطها؛ تتشكّل بصمود الشعب، وصعود المقاومة، وانهيار العبث التفاوضي. فرصة تتأتّى من مخاضات الأمّة وتحوّلات الإقليم والعالم.

تستحقّ فلسطين ثقافة سياسية جديدة، تتأسّس على قوّة الحقّ، وتفي بكفاح الأجيال. فلا مناص من نهج جديد يفرض التبرّؤ من أوزار التخابر مع الاحتلال، والتملّص من ورطة التقاسم الوظيفي معه. هي فلسطين التي تستأهل قيادة جامعة، تدرك مسؤوليّاتها، ترى القدس، وتطمح إلى الوطن المحجوب خلف الجدار، بدلاً من اعتبار السلطة الهشّة محطة أخيرة تُفضي إلى نهاية التاريخ، وتغري بتناسي مشروع التحرّر الكبير أو حجب الأمل عن صفد وأخواتها.

جرت المياه في الوادي، وانفتح أفق جديد، فإمّا الاستسلام لهواة الانكفاء والعبث؛ أو إنجاز انطلاقة جديدة لفلسطين وقضيتها.