مجلة العودة

زيـارة إلى القـدس

حسام شاكر

قفزةٌ إضافيةٌ إلى الوراء، تلك التي تمثلها زيارة لم تختطف الأنظار. فالرئيس الفلسطيني يزور شمعون بيريز، المتوّج رئيساً للكيان الاحتلالي، في مقرّ الرئاسة ذاته في القدس المحتلة.

زيارة الثاني والعشرين من تموز، رغم كل ما تخللتها من تصريحات جديرة بالإعجاب الأمريكي والثناء الأوروبي؛ لم تختطف الأنظار كثيراً، ربما لوفرة

الزيارات واللقاءات التي عُقدت في القدس في الأسابيع والشهور الأخيرة. زياراتٌ مضى فيها بلا تردّد؛ رأسُ الهرم في مشروع الدولة الفلسطينية «القابلة للحياة»، التي يكثر الحديث عنها والتبشير بها.

وفي غمرة التغطيات الإعلامية المتسارعة؛ ينهمك المتابعون في التقاط التصريحات التي قد تشي بالمحتوى السياسي لتلك الزيارات وما يتخلّلها من مباحثات. إلاّ أنّ خصوصية المكان جديرة بأن تفرض قراءةً أعمق في الخلفيات والدلالات والأبعاد، بما قد يعين على فهم جوانب تبدو مطموسة من الحالة الفلسطينية الراهنة.

فماذا يعني أن يخترق رئيس فلسطيني، كل الحواجز والسدود والأسوار، فتُفتح له ولمعاونيه حصراً، لتمكينه من الانتقال إلى الجانب الآخر، وأين هو؟ في القدس.

ولمن قد ينسى؛ فإنها القدس، شرقيةً كانت أو غربية، التي تتمحور حولها الأدبيات والشعارات والمقولات، والتي طالما تحاشى المستوى الرسمي الفلسطيني الاقتراب منها نظراً للحالة الاحتلالية المفروضة عليها. بل لم يُقدِم الراحل ياسر عرفات على ذلك، حتى دُبِّر له العزل والحصار وصولاً إلى الاغتيال (سواء أكان اغتيالاً مادياً أم معنوياً). أمّا اليوم فما نشهده، هي زيارة واحدة كل أسبوعين، تقوم بها رئاسة الرسمية الفلسطينية بالمعدّل إلى زهرة المدائن التي اقتطفها الاحتلال، علاوة على زيارات مُعلَنة أو مُتكتّم عليها تتولاها طواقم المفاوضين والمنسِّقين بلا هوادة أو حرَج.

زياراتٌ استمرت بلا كلل، بِعُرىً وُثقى لم تفصمها الحملات العدوانية لجيش الاحتلال ولا أعمال القصف التي حصدت أرواح الفلسطينيين، ولا حتى سياسات الحصار والتجويع، أو الاستيطان والتوغّلات والحواجز.

تُظهِر الصوَر التي توزِّعها الوكالات، مشاهدَ لا يطيب للفلسطينيّ أن يتمعّن فيها. فوجوه الرسمية الفلسطينية تغمرها أمارات الارتياح على نحو نادر؛ فهي في حضرة رأس الهرم الاحتلالي، أو حتى من يَلُونه في الرتبة. ثم تأتي انحناءاتٌ موثقة بالعدسات، من أجل طقوس الاحتضان الدافئة، أو لمجرّد تسطير الكلمات الفلسطينية المنمّقة في سجل الذكرى، الخاص ببيت أولمرت، الذي يحتضن المسؤولين الفلسطينيين في أجواء تبدو حميمة حقاً.

هي زياراتٌ متلاحقة تقصد معاقل القرار الاحتلالي في القدس، بما لا يمنح الانطباع بأنّ الأمر يتعلق بعملية تفاوضية جدِّيّة من أساسها. هي تبدو انزلاقاً مكانياً وتدهوراً معنوياً إلى الخندق الآخر، لا يتيحان تكافؤاً على الطاولة. هو انزلاقٌ في الصورة والشكل، كما في الخطاب والأداء أيضاً، أمّا الشعار فتبخّر من أساسه منذ زمن.

يجلس الرسميّ الفلسطينيّ في القدس التي يلتهمها الاستيطان كلّ صباح، ليتولّى مهمة «التفاوض» تحت شعارات الاحتلال الصارخة، كالتي تنادي بأحقيته المزعومة بـ «القدس الموحّدة»، ومطوّقاً بلوحات ومقتنيات مُبرَزة بعناية كي تروِّج لأسطورة «العاصمة الأبدية للشعب اليهودي».

أما الطريق إيّاها إلى القدس، فلا تكون مفروشة بالورود دوماً، فأحد الرسميين البارزين، يندفع للقاء وزيرة الخارجية المتشددة تسيبي ليفني، في القدس ذاتها أيضاً، رغم إخضاعه لـ «تفتيش خشن»، عند حواجز الاحتلال العسكرية، أسوةً بمواطنيه على الأقل. هي واقعةٌ لا تحتاج إلى خبراء نفسيين لفكّ ألغازها؛ كي ترشدنا إلى مدى توازن النتائج التي يمكن توقّعها من حالةٍ تفاوضية مترنِّحةٍ كهذه.

لا تتجرّد هذه الحالة في واقعها؛ عن نهج استرضاء الخصم، واستحثاث «الإعجاب»، كالذي يعبِّر عنه عادة نموذج «مديرة المدرسة»، الذي تجسِّده وزيرة الخارجية الأمريكية. فهي تمنح مكافآتها المعنوية المتواصلة كلما حطّت في رام الله المحتلة. وبدون هذا الاسترضاء وذاك الإعجاب؛ لا يغدو الإقبال على القدس من بواباتها الاحتلالية الكبرى قابلاً للفهم أو الاستيعاب.

يبقى السؤال: لماذا ينبغي للفلسطيني، مقدسياً كان أو غير مقدسي، أن يتحمّل هذا كلّه؟ لماذا يجب عليه أن يتجرّع مرارته لقاءً تلو آخر وإيماءةً في إثر أخرى ومشهداً في أعقاب مشهد؟

ليس سراً أن أفواهاً مكمّمة، كرهاً أو طوعاً، ترى أن ما يجري بدأب يوحي بالمروق عن «المشروع الوطني»، وأنّ التقديرات الرائجة تتحدّث عن أن ما يدور تحت الطاولة يبعث على الريبة وقابل لكل التكهنات، كما عوّدتنا سيرة مهندسي التسوية الشاحبة أنفسهم.

لقد نبّه الرئيس محمود عباس في زيارته المريرة لمقر الرئاسة الإسرائيلية، إلى أن المطلوب هو التصرّف من أجل الأجيال المقبلة، «وإلاّ فإنّ التاريخ سيلعننا». هي مفرداتٌ تستحق التوقف عندها وقراءتها بعناية. هذا لمن يدرك أن للتاريخ حساباته التي لا تهاون فيها، وأنّ الأجيال القادمة لن تبقى مكمّمة الأفواه على الأرجح.