مجلة العودة

عشرون سنة دون نقاش

حسام شاكر

منذ الإفصاح المدوِّي عن السرّ الكبير قبل عشرين سنة، لم ينهض في الساحة الفلسطينية أيّ نقاش عام جادّ بشأن "أوسلو". الحدث المؤسِّس لمسيرة التدهور المتواصلة. تراكمت الكتب والدراسات والاستقطابات، ولم يُفتَح أيّ نقاش حرّ.

تعاقبت محطّات الانزلاق إلى القاع منذ "المصافحة التاريخية" في حديقة الزهور؛ اتفاقاً عقب اتفاق، ومصافحة تلو مصافحة، دون أن يلتئم نقاشٌ وطنيّ بشأن الوجهة والخيارات. هو تقليد تجذّر، مبرهناً على مفعوله مع الانصياع لتعليمات التفاوض الصادرة عن كيري، آخر المتعاقبين على رعاية "عملية السلام".

ينبغي استرجاع الوقائع لمن فقدوا الذاكرة. فقد كان أوسلو مساراً شقّه فريق مصغّر تحت الطاولة، بلا تفويض من الشعب أو تكليفات مُسبقة. وكما يحدث في كوارث من هذا النوع، ما إن خرج الاتفاق إلى النور حتى باشرت جمهرة مدفوعي الرواتب تسويقه وحجب الملاحظات الناقدة واستبعاد فرص النقاش. عمدوا إلى صرف الأنظار عن الفحوى بشعارات تمجِّد "الإنجاز"، ومقولات أسطورية عن "سلام الشجعان" و"انتزاع أفضل اتفاق في التاريخ"، مع وعود الوفرة التي تبشِّر بسنغافورة وشيكة. وفي الظلال تعبيرات عن نزعة استئصالية للرافضين، أو محاولات لحشر "أعداء السلام" بين مطرقة السلطة وسندان الاحتلال. وسيكون على غابة الأجهزة التي تشكّلت بإرادة راعي التفاوض الأميركي وتسهيلات أرباب الاحتلال، أن تنهض بتكليفاتها وتبرهن على جدوى المشروع برمّته.

بعد الاعتراف والتوقيع، دخلت القضية قفصها اللامع الذي لم يكن ذهبياً، ولم تؤدِّ محاولات التملّص المتأخِّرة منه إلا عن سحب امتيازات القيادة، وحصار المقاطعة، وطيّ السجادة الحمراء. يتجاوز الزمن تفاصيل مهمّة عن فرضيّات التسميم ومؤشِّرات الاغتيال، وعن ملابسات إعادة إنتاج القيادة بمعزل عن الكوفية والمسدّس، وعن الصياغة الجديدة لأجهزة الأمن ليغدو إلحاقها الفعّال بمنظومة الاحتلال تكاملياً في توزيع الأدوار.

وفي غمرة إخلاص "الأمن الفلسطيني" في تجنيد المتخابرين وتفكيك الخلايا وجمع قطع السلاح الصدئة؛ كانت الوقائع تتسارع على الأرض بما فاق التوقّعات المسبقة. استشرت التوغلات والاعتقالات، ونُصبت الحواجز والعوائق، وتفاقَم الاستيطان، والتُهمت القدس حيّاً حيّاً وبيتاً بيتاً. وتكفّل فريق أوسلو الفلسطيني بحصّته من الأعباء؛ إذ أطاح لافتة "حقّ العودة"، وشُغل بخيارات لتصريف اللاجئين هنا وهناك، وأخرج ثلثي الشعب من المعادلة باستبعاده فلسطينيي الخارج، وعزل المنزرعين في داخل الداخل عن الاهتمام، فباتوا "شأناً إسرائيلياً" لا يستحقّ الالتفات إلى ما يحيق بهم من مخاطر، ولو كان الخطر بوزن مخطط برافر.

إنها شجرة أوسلو الخبيثة، التي أثمرت تواطؤاً مع المحتلّ، وتشظِّياً داخلياً، وانسداداً في الأفق. وفي ظلِّها البائس نشأ جيلٌ فلسطيني عريض أبصر النور بعد الاتفاقات، وهو يشكِّل معظم الشعب بحسابات الديموغرافيا. جيلٌ وجد الاحتلال وقد شيّد جدرانه في حضرة العلم الفلسطيني. شجرة خبيثة هي، ضربت بجذور لا تقتلعها انتفاضات الشعب وهبّاته، ولا تعصف بها التوغلات اليومية، أو حتى حملات العدوان الحربي التي تلاحقت في عهد السلام وزمن التغنِّي بالدولة.

ولأنّ مسيرة التدهور تتواصل بلا هوادة؛ فإنّ مَن صنعوا الكارثة يتشبّثون بمقاعدهم في قمرة القيادة. مرحى! فالنتائج تخضع لمقدِّماتها. ظلّ أولئك عشرين سنة دون مساءلة أو محاسبة؛ لأنّ نقاشاً حقيقاً لم ينهض بعد. كلّ ما فعلوه هو طمس بصماتهم: حجبوا دورهم في "هندسة الاتفاق" عن سيرهم الذاتية، ولم يعودوا يجرؤون على التباهي بإنجازات التفاوض في ليالي تلك العاصمة الإسكندنافية.

وبعد أن وَهن العظم منهم واشتعلت رؤوسهم شيْباً، اتضح أنّ أولئك النفر قد أدمنوا التفاوض بلا نهاية. أليست "الحياة مفاوضات"؟! هم لا يقاومون إغراء المحادثات، بل يجدون متعتهم في التكتّم على صنيعهم، وحجب المداولات خلف أبواب موصدة، وما على الشعب سوى انتظار الفضيحة التالية عبر الفضائيات بعد أن يتسرّب غيض من فيض يزكم الأنوف. أدمنوا التفاوض، فانتفت الحاجة إلى العواصم القاصية؛ لأنّ حواجز الاحتلال ستُفتح لهم ليلاً في الطريق إلى القدس أو تل الربيع، حيث يتماهى التفاوض أحياناً مع الحوار أو التفاهم، وتؤول المجالسة والمؤانسة إلى ضروب متعدِّدة من التنسيق.

لا حاجة لاعترافات فريق أوسلو ومذكّراته الشاحبة بعد عشرين سنة أخرى، أو ترقّب الكشف عن وثائق غربية أو ما تجود به "ويكيليكس" من فضائح، بل يكفي نظم الوقائع لتغدو منطقية، بما يتيح تقدير المشهد المُستتر. وكما تجاوزت الساحة حقبة أوسلو دون نقاش، فستنقضي الفضائح المتوالية دون أن تستدعي تحقيقاً أو مراجعة.

بعد عقدين من ابتساماتهم العريضة في حديقة الزهور، ها هم صانعو الكارثة يتجاهلون ذكراها العشرين، ويُشغَلون بمفاوضات جديدة تجترّ الواقعة البائسة، مع اطمئنانهم إلى الحصانة من المساءلة والمحاسبة. وكما يحدث في جولات كهذه، تباشر جمهرة مدفوعي الرواتب تسويق التفاوض وحجب الملاحظات الناقدة واستبعاد فرص النقاش، خلال الرحلة الممتعة إلى القاع.