مجلة العودة

أزمة نهر البارد بين أيّارَين

أزمة نهر البارد بين أيّارَين

بداية الحكاية

نهر البارد... ربما أوحى الاسم بالهدوء وراحة البال، إلا أن ما حدث في مثل هذا الشهر منذ ستة أعوام يدل على أن الاسم على غير مسمى؛ فلم يخطر ببال اللاجئين الفلسطينيين القاطنين بنهر البارد، تلك البقعة الهادئة النائية في شمال لبنان أنّ هذا النهر البارد سيتحول إلى نهر من الدماء، ولم يخطر ببالهم أنهم سيعيشون أجواء النكبة مرةً أخرى، ولكن هذه المرة في شمال لبنان.

يعود تاريخ إنشاء مخيم نهر البارد إلى عام 1949، وقد أنشأه اتحاد جمعيات الصليب الأحمر لتوفير الإقامة للاجئين الفلسطينيين الفارين من جحيم المحرقة الصهيونية، وقد تشكل المخيم في الأساس من اللاجئين الفلسطينيين الذين طردوا من أراضيهم عقب نكبة 1948، وقد أخذ اللاجئون الفلسطينيون في بناء مجتمع جديد في أرض الشتات بشمال لبنان، وتآلف الجميع في انسجام تام ليشكلوا مجتمعاً جديداً. وجدير بالذكر أنّ مخيم نهر البارد يقع على مسافة 16 كم من طرابلس بالقرب من الطريق الساحلى.

أزمة  نهر البارد

في20  أيار 2007 قتل 33 عنصراً من عناصر الجيش اللبنانى في منطقة العبدة والمحمرة المحاذية لمخيم نهر البارد على أيدي مسلحين من تنظيم (فتح الإسلام) الذى ظهر فجأةً،  وبعدها بستة أيام ظهر زعيم تنظيم فتح الإسلام المدعو (شاكر العبسي) في شريط فيديو بثته قناة الجزيرة. وذكرت القناة أن الرجل فلسطيني، وقالت إنه أول ظهور علني له، وتضمن الشريط صوراً لمعسكرات التنظيم وتدريبات عناصره. وكان رد الفعل اللبنانى الرسمي قاسياً؛ إذ ضربت قوات الجيش اللبنانى المخيم بحثاً عن عناصر فتح الإسلام. وتمتعت تلك الحرب بغطاء سياسي من كل القوى اللبنانية المنضوية تحت لواء الحكومة اللبنانية، وتمتعت أيضاً بغطاء عربى، واستمرت الاشتباكات لمدة ثلاثة أشهر، ما أدى إلى مقتل180 من قوات الجيش اللبناني بين ضابط وجندي، ومقتل 226 عنصراً من تنظيم فتح الإسلام، ومقتل 50 مدنياً فلسطينياً ولبنانياً.

آلام النكبة تتجدد في لبنان

لم تكن الخسائر في الأرواح فقط؛ فعلاوةً على مقتل عشرات المدنيين الأبرياء من الفلسطينيين واللبنانيين، أدت أزمة نهر البارد إلى نزوح  33000 فلسطيني و250 عائلة لبنانية كانت تقطن في المخيم، وفرّ اللاجئون الفلسطينيون إلى مخيم البداوي المجاور، ما أدى إلى تضاعف عدد سكان مخيم البداوي من 16.000 شخص إلى 30.000 شخص، وفرّ اللاجئون إلى المناطق المجاورة، فضلاً عن تدمير المخيم بالكامل، ليعيش اللاجئون الفلسطينيون مأساة جديدة فوق مأساتهم الأصلية، وليتحول نهر البارد إلى ثكنة عسكرية، وليدفع قاطنو نهر البارد ثمن جريمة لم يرتكبوها ولم يكونوا جزءاً منها.

إعادة الإعمار بين أمل النظرية وألم الواقع

وبعد ثلاثة أشهر من القتال الدامي والاشتباكات ما بين قوات الجيش اللبناني وعناصر فتح الإسلام، أدت الاشتباكات إلى دحر عناصر فتح الإسلام وقتل بعضهم وفرار بقية عناصر التنظيم إلى خارج لبنان. أما قائد التنظيم، فقد تضاربت الأنباء بشأنه ما بين مقتله وفراره  خارج لبنان. وأدت الاشتباكات أيضاً إلى تدمير مخيم نهر البارد بالكامل ونزوح عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين إلى خارج المخيم، وإثر ذلك قررت الجهات الرسمية اللبنانية إعادة إعمار المخيم من جديد، وأوكلت الجهات الرسمية اللبنانية مشروع إعادة إعمار المخيم إلى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). وعلى الرغم من حسم عملية إعادة الإعمار نظرياً وسياسياً، إلا أن تطبيق العملية على أرض الواقع، وجعلها واقعاً ملموساً، بات أمراً صعباً؛ فإثر تجاهل الدور الذي قام به سكان المخيم من مؤازرة قوات الجيش اللبناني ورفع الغطاء عن تنظيم فتح الإسلام، وإثر بيروقراطية الدولة اللبنانية وبطء سير الإجراءات الحكومية، تأخرت عملية إعادة البناء للمخيم قبل أن تنطلق رسمياً؛ إذ أُعلن الشروع بالإعمار إعلامياً ورسمياً من خلال وضع الحجر الأساس في يوم 9/3/ 2009، وقد تمت الموافقة على المخطط التوجيهي للبناء في نهاية أيار عام 2009. وقد جاء الإعلان الثاني لبدء الإعمار فعلياً  في  29/6/ 2009،  لكن أُوقفت عملية إعادة الإعمار بقرار من مجلس شورى الدولة، بسبب ما عرف بمشكلة "الآثار" لمدة شهرين، حيث اكتُشفت مدينة رومانية قديمة تدعى (أرتوزيا) تحت منشآت مخيم نهر البارد. ولم تكن مسألة الآثار هي المعرقل الوحيد لعملية الإعمار تلك؛ إذ كان من المقرر تسليم المرحلة الأولى من إعادة الإعمار في نهاية عام 2010، لكن التأخر في إنهاء هذه المرحلة تجاوز فترة ثلاثة أشهر، فضلاً عن قلة الموارد المالية المخصصة لإعادة الإعمار، وذلك وفقاً لقرارات الدول المانحة للإعمار في مؤتمر فيينا، فإن المبلغ المطلوب للإعمار هو 445,000,000 دولار أميركي. لكن ما جرى توفيره من المبالغ المخصصة للإعمار التي تسلمتها الأونروا، يمثل ما يكفي لإعمار أربع مراحل من أصل ثماني مراحل هي مجمل المخيم القديم. كل هذه صعوبات ومعوّقات تعرقل سير عملية إعادة الإعمار.

2012 عام الانفجار

في 15/6/2012، وجراء التعامل اللبنانى الرسمي إزاء مخيم نهر البارد الذى ينطوي على كثير من الظلم وعدم الإنصاف، وإزاء سياسة العقاب الجماعي التي تنتهجها السلطات الرسمية في لبنان والتي تتمثل في التعامل الأمني المشدد مع سكان المخيم وتأخر عملية إعادة الإعمار، اشتعل غضب سكان نهر البارد بسبب التعامل معهم بهذه الصورة التي تنتهك كرامتهم وحقوقهم، وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير أن حاول عناصر من الجيش اللبناني خلال دورية داخل المخيم توقيف شخص فلسطيني من "آل الوحش"، كان يقود دراجة من دون أوراق قانونية (حسب ما أفاد الجيش اللبناني في بيانه في 15/6/ 2012)، وعند وصول عناصر من الجيش إلى بيت صاحب الدراجة النارية، حصل تلاسن ثم تدافُع مع عناصر من الجيش، وقعت على أثره امرأة فلسطينية على الأرض، وتطوّر الأمر حين انهال عناصر من الجيش على صاحب الدراجة بالضرب، بحسب إفادات شهود عيان، فتجمهر عشرات من سكان المخيم محاولين منع الجيش اللبناني من احتجازه، عندها رمى الشبان الفلسطينيون المتجمهرون عناصر الجيش بالحجارة، فردّ الجيش بإطلاق النار تارةً في الهواء، وتارةً أخرى باتجاه الشبان، ما أدى إلى سقوط ضحية يدعى "أحمد عادل أنيس قاسم"، 17 عاماً أصيب إصابة قاتلة في الرأس، وخمسة جرحى آخرين.

وإزاء هذه الجرائم اشتعل فتيل الغضب وخرج سكان المخيم إلى الشوارع والساحات في تظاهرات غاضبة مما حدث، وطالبوا بإجراء تحقيق عاجل في حادثة مقتل الشاب أحمد قاسم، ولم تُلبِّ الجهات الرسمية اللبنانية تلك المطالب حتى هذه اللحظة.

إن ما حدث في نهر البارد هو جريمة بكل المقاييس؛ إذ إنه لا ينبغى معاقبة شعب بأكمله على جريمة ارتكبتها قلة ينتمون إلى ذلك الشعب، وكذلك ينبغى للجهات الرسمية اللبنانية أن تضع في اعتبارها دور سكان نهر البارد في عملية دحر عناصر فتح الإسلام؛ إذ كشف سكان المخيم الغطاء عن عناصر التنظيم ورفضوا أن يكونوا دروعاً بشرية لحمايته. لذا، من واجب الحكومة اللبنانية أن تعمل القانون وتطبقه على كل من سبب قتل المدنيين الأبرياء في نهر البارد، كذلك فإنها مسؤولة عن تسريع وتيرة إعادة إعمار المخيم بما يتناسب مع احتياجات السكان.