مجلة العودة

تحقيق: تجمّع ركن الدين على جبل قاسيون من رحم النكبة واللجوء يؤرخ لعودته - وسام حسن

تجمّع ركن الدين على جبل قاسيون من رحم النكبة واللجوء يؤرخ لعودته
 

وسام حسن/ دمشق

«لأنه يشبه جبال الجرمق وكنعان»، هكذا قال لنا معظم من التقيناهم لإعداد هذا التقرير في إجابتهم عن سؤالنا لماذا: «سكنتم هذه المنطقة المرتفعة الصعبة والوعرة في كثير من نواحيها؟».

تجمع ركن الدين الفلسطيني يمتد كقوس اختط على جبل قاسيون المطل على مدينة دمشق من جهة الشمال. وطول هذا الخط الذي يتوزع فيه التجمع 10 كلم تقريباً، ويبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين في التجمع نحو 25 ألف نسمة معظمهم من مدينة صفد وقراها، وجميعهم تجرعوا مرارة النكبة والتشرد وصعوبة العيش في السنوات الأولى من اللجوء.

لا تعترف به الأونروا بوصفه مخيماً يستحق أن تشرف عليه وتساعد سكانه وتعينهم على ظروف الحياة الصعبة. فهو بلا مركز صحي وليس فيه أي مكتب للأونروا يمثلها أو يتابع شؤون اللاجئين كمعظم المخيمات والتجمعات الفلسطينية في سورية. في هذا التجمع أربع مدارس فقط تابعة للأونروا اثنتان للمرحلة الابتدائية واثنتان للمرحلة الإعدادية، عدا ذلك فالأونروا بعيدة كل البعد عن هذا التجمع الذي يعتبر أكبر من كثير من المخيمات، سواء من حيث عدد السكان أو الرقعة التي ينتشر عليها.

العودة التقت عدداً من قاطني هذا التجمع، وكان لنا معهم هذه الحوارات.

ماجد صوان من قرية بيريا قضاء صفد:

إن بداية تشكل هذا التجمع تعود إلى عام 1949 حيث بدأ اللاجئون يستقرون في مخيمات وتجمعات في عدد من المدن السورية، ومنها مدينة دمشق التي شهدت أكبر تجمعات للاجئين الفلسطينيين في العالم. وبالنسبة إلينا عدد من أقربائنا ومن أهل قريتنا، وجدنا في ركن الدين بدمشق منطقة تشبه قريتنا كثيراً، وخصوصاً في أعلى جبل قاسيون. لهذا، نجد أن معظم اللاجئين من مدينة صفد أو قراها يسكنون هذه المنطقة. وعلى سبيل المثال، نجد أن أكبر تجمع لأهالي قرية (دلاته) وقرية (بيريا) وقرية (علما) وقرية (القباعة) هو في هذا التجمع؛ لأن هذا المكان يشبه تلك القرى، بالإضافة إلى اللاجئين من مدينة صفد؛ فهم يمثّلون الغالبية في هذا المكان. هناك أيضاً عائلات بأكملها لا تجدها تسكن خارج هذا التجمع إلا في السنوات الأخيرة، ومن العائلات التي تسكن هذا التجمع عائلة السعدي وسعد الدين وسويد وقرباش والأسدي وعطايا... وصوان والشبعاني...إلخ. ونرى اليوم أن الحارات في هذا التجمع تسمى بأسماء العائلات أو القرى، مثلاً هنا منطقة أهل دلاته وهناك منطقة أهل صفد ومنطقة أهل علما وهكذا.

وهناك سبب آخر للسكن في هذه المنطقة، هو أنها كانت رخيصة جداً، وأنت تعلم أن اللاجئ الفلسطيني الذي خرج لتوه من بلاده يبحث عن منطقة رخيصة يعيش فيها هو وأسرته وكانت منطقة الجبل أرخص المناطق في دمشق لأنها غير مخدمة أبداً ووعرة وبعيدة نوعاً ما عن المناطق الحيوية في دمشق.

يتوزع اللاجئون في ركن الدين على عدة مناطق منها منطقة الشياح والشيخ خالد وابن العميد، وهذه التجمعات 90 بالمائة يسكنها الفلسطينيون وفيها سكان من أهل الشام ومن الأكراد. والقوس الذي يسكن فيه الفلسطينيون يمتد من منطقة الشياح إلى منطقة ابن النفيس. والآن تشهد هذه المناطق حالة ارتفاع في أسعار المساكن بسبب تخديمها ومدها بشبكة مواصلات تصل بالسكان إلى كثير من المناطق التي كان من الصعب جداً الوصول إليها بالمركبات.

بالنسبة إلى الخدمات في هذه المنطقة، لم تعترف الأونروا بهذا التجمع طوال العقود الماضية، وبذلك حرمت السكان من خدماتها، وعلى رأسها الخدمات الصحية. وطالبنا أكثر من مرة بتقديم خدمات صحية على غرار المخيمات الأخرى، إلا أن هذه المطالب كانت تأتي دائماً بالرفض. أما باقي الخدمات فالحمد لله تجد اليوم في هذا التجمع كل الخدمات، وهذا بفضل توجيهات الرئيس بشار الأسد الذي طلب فيها أن يكون جبل قاسيون مُضاءً ولا ينقصه أي خدمات تذكر.

لكن السكن على سفوح الجبل تحفّه دائماً المخاطر؛ فمن فترة بسيطة سقطت صخرة كبيرة على عدد من البيوت، والحمد لله لم يسبب هذا الحادث سقوط أي ضحايا، لكن نتجت أضراراً كبيرة بالممتلكات، كذلك يعاني عدد لا بأس به من قاطني المناطق الأكثر ارتفاعاً من هاجس سقوط الصخور.

وهذه المنطقة كانت في الماضي منطقة كسّارات ولا يزال عدد من الحفر والوديان شاهداً على ذلك.

يتقن السكان هنا عدة حرف ومهن، ويتعيّشون منها كالأعمال الحرة الدهان، البناء.. إلخ ونسبة المتعلمين في هذا التجمع تتجاوز الـ60 % ونسبة الأميين لا تتجاوز 5% والأوضاع الاقتصادية عادية جداً. فهنا السكان منقسمون إلى طبقتين: فقيرة ومتوسطة.

للأسف الشديد ليس في التجمع أي مؤسسة ثقافية ولا حتى مكتبة عامة، وتقام المحاضرات عادة في المنازل الكبيرة، ويصل إلينا عادة معظم مجلات التنظيمات الفلسطينية التي لها تواصل مع هذا التجمع وبعض الكتب التي تصدرها مؤسساتها الثقافية.

اليوم ينام أهل المخيم ويصحون على حلم العودة واحتضان أرض فلسطين وكل قراها وتحرير كل شبر منها. ولعل رغبة السكان في العيش هنا وفي هذه المنطقة تحديداً لأنها تشبه قراهم، أكبر دليل على أن العودة تسكن قلوبهم وأرواحهم وعقولهم.

ويقول حسين عيسى، من مواليد 1977، وهو من صفد رئيس دائرة كلية الاقتصاد في جامعة دمشق: «إن التجمع السكاني الفلسطيني في ركن الدين تجمع حميم وعائلي؛ لأن معظم الفلسطينيين هنا تجمعهم صلات قرابة، ونلاحظ ذلك من خلال تمركز عائلات بأكملها في هذا التجمع».

وقد سكن معظم الفلسطينيين في هذا المكان في أوائل الخمسينيات تقريباً، حيث بدأت المخيمات والتجمعات الفلسطينية في دمشق وضواحيها ترسم معالمها وصورتها على ما هي عليه اليوم من حيث سكانها ومساحتها. بالنسبة إلى الخدمات اليوم، هي أفضل بكثير مما سبق، ولا ينقصنا شيء في تجمعنا الفلسطيني، من الماء إلى الكهرباء إلى الصرف الصحي وظروف السكان هنا عادية جداً.

أما المؤسسات الفلسطينية الثقافية في تجمع ركن الدين فهي قليلة وتكاد تكون نادرة، وهناك بعض التجارب في التجمع، فقد تأسست أخيراً عدد من الفرق الفنية (فرق الموالد) ويوجد فريق كرة قدم وأندية رياضية.

وهناك عدد من الرموز العلمية والثقافية الفلسطينية انطلقت من رحم التجمع.

وختم حسين عيسى بالقول إن الجميع يتمنون العودة إلى ديارهم ولا تجد فرداً واحداً يقول غير ذلك ويتمنى الجميع أن يحملوا البنادق وينخرطوا في صفوف الدفاع عن فلسطين وشعب فلسطين.

الحاجة أم فؤاد قرباش، من مواليد صفد 1926 تقول: «كانت مسيرة اللجوء مسيرة صعبة، وعانينا الكثير الكثير، ومنذ اللحظة الأولى التي خرجنا فيها من صفد تجرعنا مرارة النكبة ومرارة التشرد بعد أن كنا في ديارنا معززين مكرمين، لقد خرجنا من فلسطين باتجاه لبنان مشياً على الأقدام، وكان عندي 4 أولاد أحدهم لم يتجاوز عمره شهراً واحداً حتى وصلنا إلى بنت جبيل فأخذونا في القطار حتى مدينة حمص وسكنا فيها 9 سنوات ثم ذهبنا إلى دمشق على جبل قاسيون مباشرة، وكان ذلك أواخر عام 1956 حيث اشترينا قطعة أرض في أعلى الجبل لأن الأراضي المرتفعة كانت رخيصة نوعاً ما، وأذكر أننا اشتريناها بـ700 ل.س، كانت عبارة عن مكان تتجمع فيه الصخور والحصى وبدأنا بتنظيفها وتعزيلها من الحجارة الكبيرة والصغيرة حتى استطعنا أن نسويها تقريباً لتصبح صالحة للبناء، وبدأنا رحلة المعاناة مع البناء حيث كنا ننزل من أعلى الجبل حتى قبر الشيخ محيي الدين بن عربي في الأسفل لنجلب الماء ونعبئ ما توافر لدينا من أوعية حتى نستطيع تعمير الطوب، والحمد لله بعد سنة تقريباً أنجزنا البيت.

بعد ذلك بدأ عدد من أقربائنا يسكنون بجانبنا، وكان بيتنا وبيت ابن عم زوجي فقط في كل هذه المنطقة التي تشاهدها، وما لبثت المنطقة أن امتلأت بالسكان. ومعظم جيراني اليوم هم من أقربائي أو من أهل مدينتي صفد.

أبنائي جميعهم تعلموا وكنت أعمل خياطة في المنزل إلى جانب عمل زوجي، وسارت الحياة حتى رأيت أبنائي يسكنون بعيداً عني فمنهم من ذهب إلى مخيم اليرموك ومنهم من سكن بجانب مخيم اليرموك، وأنا اليوم كما ترى أسكن وحدي في المنزل ولكن هناك بجانبي أولاد أخي.

كل يوم أدعو الله أن أعود وأموت في بلدي صفد وأن أضم ترابها (تبدأ بالبكاء) وأشم رائحتها من جديد، ووالله لن أتأخر عن أي تضحية أقدمها مقابل العودة إلى صفد، وإلى توتة الدار التي كانت تغطي مساحة واسعة من البيت الذي كنا نسكنه.