مجلة العودة

تحليل: أولويات المصالحة: حكومة التوافق أم إعادة بناء منظمة التحرير؟ - نافذ أبو حسنة

أولويات المصالحة الفلسطينية
حكومة التوافق أم إعادة بناء منظمة التحرير؟
 

نافذ أبو حسنة/ بيروت

من المفترض، استناداً إلى ما هو معلن على الأقل، أن المصالحة الفلسطينية قائمة على نحو ما. وتعكس تصريحات الغالبية من مسؤولي حركتي فتح وحماس، إصراراً على السير في إنجازها، وتخطي كل العقبات التي يمكن أن تقف في طريقها، وذلك في ضوء إدراك متزايد لدى الطرفين بأن هناك من يريد العرقلة، وإحباط ما يمكن البناء عليه.

تبدو المصالحة في كثير من الأحاديث والتصريحات، وكأنها هدف بحد ذاته، وتمثّل غاية المنى. وهي التي يفترض أن تكون واقعاً قائماً ومتحققاً، لا هدفاً يجري السعي إليه أو طموحاً وحلماً يتطلع المجموع الفلسطيني إليه. ويظهر أن سنوات الانقسام ومراراتها، تجعل من النص الاحتفالي الواضح كلما حضر لفظ المصالحة مبرراً ومفهوماً.

بالمقابل، بات معروفاً الآن أن تنفيذ ما اتَّفق عليه في القاهرة لا يعبر طريقاً سالكاً، ومعبداً. وهناك إقرار بالصعوبات الكبيرة التي تعترض إجراءات وضع بنود التوافق موضع التطبيق الفعلي. ومنشأ بعض هذه الصعوبات «محلي» وبعضها الاخر ناجم عن ضغوط خارجية.

أبعد من التوافق على الحكومة

لن نتوقف كثيراً عند العقبات الحقيقية والمفتعلة، إذ قيل فيها الكثير، وربما على نحو لا يحتمل أي زيادة، أو تفصيل. ولكن من المهم التوقف عند نقطة متصلة، بما يجري تصديره، وكأنه الهدف الأساسي المرجو من المصالحة، أو غاية ما يرجى منها.

يدور الحديث هنا وبشكل أساسي حول نقطتين هما: تشكيل حكومة التوافق الوطني، والتحضير للانتخابات. والحقيقة أنه جرى النص على هاتين النقطتين في الاتفاق الذي وُقِّع في القاهرة. وثمة من يرى فيهما الاتفاق كله، وذلك بدليل غياب البحث في النقطتين الأهم، وهما: الخيارات المستقبلية، وإعادة بناء المرجعية الوطنية الفلسطينية ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية. رغم أن الاتفاق أفرد بنداً خاصاً بالمنظمة ومستقبلها.

ثمة من يشير هنا إلى أن الموضوع السياسي، ومسألة الخيارات قد جرى ربطهما بمنظمة التحرير الفلسطينية، والمقصود هنا، هو موضوع التفاوض وحسب، حتى لا يظن أحد أن المنظمة ستبحث في خيارات أخرى. والحقيقة أن هذا الأمر بالذات يفرض إعادة ترتيب الأولويات، والشروع أولاً في إعادة بناء المنظمة وتحديد برنامجها. والاتفاق على خيارات العمل الوطني، ومن ثم تكون موضوعات الحكومة والانتخابات وغيرها، تفاصيل يمكن إنجازها بسرعة.

وسوف يبدو أن ترتيب الأولويات على هذا النحو، يخفف كثيراً من التعقيدات، ولا يذهب بنا إلى التعقيد على ما يرى البعض، مفترضاً أن الدخول إلى البحث في موضوع المنظمة سوف يستغرق وقتاً طويلاً، ويتطلب توافقاً وطنياً كبيراً تشارك فيه كل مكونات العمل الوطني الفلسطيني.

يتطلب الأمر وقتاً وتوافقاً عاماً، وجهداً كبيراً. هذا كله صحيح. وما المشكلة في ذلك، وخصوصاً أن السير وفق الوجهة الراهنة لن يقدم لشعبنا ما يطمح إليه؟ وأكثر من هذا يعني إغراقه في أوهام بكل ما للكلمة من معنى.

الحكومة: التعثرات والإمكانات

تنصب الجهود الآن على تأليف حكومة التوافق الوطني. تصطدم هذه الجهود بعقبات كثيرة. ولكن لنفترض أن الجهود المبذولة سوف تنجح. فما الذي ستحققه الحكومة العتيدة؟

وفق ما هو مرسوم لها في الاتفاق، فإن عليها القيام بمهمتين أساسيتين، هما: التحضير لإجراء الانتخابات، وإعادة بناء ما دمرته الحرب في غزة. حسناً. في التجربة التي خاضتها الحكومات الفلسطينية المشكلة منذ قيام السلطة الفلسطينية تبين أن حدود قدرة أي حكومة فلسطينية على العمل، ترتبط بالمدى الذي يتيحه الاحتلال لها كي تعمل. لا يحتاج المرء إلى سوق دلائل وشواهد على هذا الأمر. لننظر إلى ما تشهده الضفة الفلسطينية يومياً، وسنصل إلى نتيجة واضحة. ولعل كل فكرة «الحكومة الفلسطينية» تتصل بإغراق الفلسطينيين في وهم السلطة والسيادة على الأرض بينما ينطق الواقع بعكس ذلك تماماً. ومع إصرار رئيس السلطة على استمرار تولي سلام فياض هذا المنصب، يتضح أكثر ما هو المطلوب حقاً. ولنفترض أن حماس وافقت في آخر المطاف على رئاسة فياض للحكومة، ونجحت الحكومة في إجراء انتخابات، فما الذي سيتغير؟ وإذا وضعت خطة لإعادة البناء في غزة، فكيف ستنفذ إذا لم يمرر الاحتلال مواد البناء، مع تعثر العمل المستمر وطبيعة الاشتراطات المفروضة على نشاط معبر رفح؟ وما هو الثمن الذي يريده الاحتلال مقابل السماح بالبناء؟ ليس صعباً تحديد الإجابات عن كل هذه الأسئلة.

وهناك مسألة أخرى تتصل بالتفويض إلى رئيس السلطة متابعة العمل في الملف السياسي، أي المفاوضات، بوصف هذا الملف من اختصاص منظمة التحرير الفلسطينية، لا السلطة أو الحكومة. حسناً أيضاً. يدور الحديث حول التوجه إلى الأمم المتحدة. ولكن في كل يوم يواصل قياديون في السلطة والمنظمة الحديث عن الاستعداد للدخول في المفاوضات إن توافرت الفرصة لها، بحيث لا يعود الذهاب إلى الأمم المتحدة الخيار الوحيد. ولهذا معنى واحد فقط: العودة إلى العبث التفاوضي الذي سئمه شعبنا، وبات مدركاً أنه لا يقدم سوى التنازل عن الحقوق الوطنية الفلسطينية والذهاب إلى مفاوضات من هذا النوع، وهو احتمال قائم في كل لحظة، سوف يفقد المصالحة كل ما يمكن أن ترتكز عليه.

ليس هذا نوعاً من الحساب على النيات، أو القيام بطرح افتراضات غايتها مجرد التشكيك. الواقع يقدم حقائق عنيدة لا يمكن الإغضاء عنها. والحديث عن إعادة ترتيب الأولويات يمثّل مخرجاً من الأزمة، وينتج مصالحة حقيقية، ومعها برنامج كفاح وطني بات تعيينه ملحاً بعد أن قدم شبابنا رؤيتهم، وقالوا كلمتهم في الخامس عشر من أيار/ مايو، وفي الخامس من حزيران/ يونيو. وما قدمه شبابنا يجب أن يتحول إلى برنامج إجماع وطني تسخر له كل الجهود الفلسطينية.

الشباب والانتفاضة الثالثة

مع تفجر الانتفاضة الشعبية الفلسطينية في التاسع من كانون الأول/ ديسمبر 1987، انطلق الحديث عن انتقال مركز الكفاح الوطني الفلسطيني إلى الداخل المحتل.

لم يكن الكلام على الداخل والخارج جديداً في الخطاب السياسي الفلسطيني. انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965. لم تكن الضفة والقطاع تحت الاحتلال. وكان مفترضاً أن تتركز قواعد المقاومة في المنطقتين، لتكون منطلقاً لتحرير الأراضي المحتلة عام 1948. ما حدث على أرض الواقع كان بعيداً عن ذلك التصور. لم تتح للفصائل الوليدة آنذاك الفرصة ولا الوقت لإنجاز الوضع ومن ثم التحرك. ونشأ بعد عدوان حزيران عام 1967، وضع جديد. أضحت فلسطين بكاملها تحت الاحتلال، وظلت ثورة اللاجئين هي ثورة اللاجئين المنطلقة من الخارج إلى الداخل، فتوضعت قواعد الثورة الفلسطينية في الأردن وسوريا ولبنان، وشنت عملياتها العسكرية عبر الحدود. واكتست المواجهة في مرحلة من المراحل شكل الحرب العسكرية النظامية مع جيش الاحتلال.

ظلت المقاومة الفلسطينية بكافة فصائلها، تبذل طوال الوقت (أو تقول إنها تبذل) جهداً من أجل إحداث توازن بين نشاطها في الخارج، وحضورها في الداخل. ونجحت بعضها أحياناً في إيجاد حضور قوي لها داخل الأرض المحتلة، لكن الحديث عن التوازن المشار إليه، تحول إلى نوع من النقاش النظري، مع الصعوبات المتصاعدة التي واجهت محاولات تركيز بنى عسكرية وتنظيمية قوية في الداخل الفلسطيني. وكان الضجيج العسكري والسياسي المحيط بالمقاومة الفلسطينية، ونشاط منظمة التحرير في لبنان تحديداً، قادراً على إزاحة النقاش إلى درجة اهتمام متدنية في اليوميات الفلسطينية.

تغير هذا الوضع بحدود معينة بعد اجتياح لبنان عام 1982. بدأ التفكير في العمل داخل الأرض المحتلة، يأخذ طابعاً أكثر جدية. ولكن ينبغي الاعتراف بأن الشعب الفلسطيني هو من أخذ زمام المبادرة، بانتفاضته الشعبية العارمة، التي نقلت لأول مرة مركز الثقل في الكفاح الوطني الفلسطيني إلى داخل فلسطين المحتلة، وتزامن ذلك مع بروز قوى فلسطينية جديدة، غير القوى المشكلة لمنظمة التحرير الفلسطينية.

أخذ المشهد شكلاً جديداً بعد اتفاق أوسلو. باختصار أضحى الخارج مهمشاً، وهمشت معه قضية اللاجئين. لا يغيب عن البال أن جانباً من التهميش كان مقصوداً ويتصل بخيارات سياسية، تريد تكريس السلطة الناتجة من أوسلو بوصفها تعبيراً عن المجموع الفلسطيني، وتقويض منظمة التحرير الفلسطينية.

جاءت انتفاضة الأقصى، والمواجهات المتكررة في غزة لاحقاً، وصولاً إلى الحرب الشرسة التي شنت على القطاع نهاية 2008 أوائل 2009، لتكرس دور الداخل وأولويته. ثم شغل الانقسام المجموع الفلسطيني كله، وظلت آثاره الأكبر في شكله الجغرافي.

وعندما وصلت خيارات التفاوض البائسة إلى الطرق المسدودة، وبدا الانقسام كأنه قدر لا مفر منه، وجرى الاستنتاج دوماً أن المخرج من كل هذا الواقع السيئ ومفاعيله، إنما يكون بتفجر الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، كان المقصود بذلك انطلاق الانتفاضة في الضفة الفلسطينية.

حدث تغير كبير ومهم، مع تحرك الشباب الفلسطيني ودعوته إلى الانتفاضة الثالثة. في هذا التحرك بدا الفلسطينيون كمن استعاد في لحظة تاريخية رائعة، البديهيات التي كانت راسخة في وعيهم طوال الوقت، ولا يرون تعبيراً عنها. تقول هذه البديهيات: فلسطين واحدة. وشعبها واحد.

انطلقت الدعوات من فلسطين التاريخية، بتصنيفاتها وفق مواقيت الاحتلال: المحتلة عام 1948، والمحتلة عام 1967. ومن المخيمات خارج فلسطين، ومن أماكن التجمع الفلسطيني في مختلف أنحاء العالم.

لم يعد الحديث هنا عن الضفة وغزة. عادت فلسطين لتشغل كل مساحة المشهد، وكأنها تولد من جديد. كان رئيس حكومة الاحتلال، واحداً ممن أدركوا بسرعة حقيقة ما يجري وأهميته، فقال إن الأمر لا يتصل بما هو محتل عام سبعة وستين، بل يستهدف دولته القائمة على أرض فلسطين.

زخرت تحركات الخامس عشر من أيار بمعان كثيرة جداً. وتلتها تحركات الخامس من حزيران، لتحمل المعاني ذاتها، وتعمقها. هي المرة الأولى التي تشهد تكاملاً في كفاحنا الوطني. وهي بداية كبرى، يجب الاستمرار فيها والتأسيس على ما أنتجته من إيجابيات كبرى. هنا الدور المهم المطلوب من مصالحة حقيقية، وبناء مرجعية وطنية مناضلة سيشكل دعماً حقيقياً لتلك التحركات التي بدأت ولن تقف.