مجلة العودة

تفاعلات المشهد الفلسطيني وتطوّراته تهدئة نوعية ومفاوضات بلا فحوى.. ودعوات للحوار بلا حوار

تفاعلات المشهد الفلسطيني وتطوّراته
  تهدئة نوعية ومفاوضات بلا فحوى.. ودعوات للحوار بلا حوار

حسام العيسى/ عمّان

مزيد من التطوّرات تلاحقت على المشهد الفلسطيني، فالقضية الحافلة بالتفاعلات تشغل الأسماع والأبصار دوماً، وهو ما كان عليه الأمر في الأسابيع الماضية كذلك.

فقد تنامت التفاعلات وبرزت في ملفات التهدئة والحصار في غزة، وسياسات الاحتلال في الضفة، وكذلك في ما يتصل بمجريات الانقسام الفلسطيني وخيارات الخروج منه، ومسار المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي التي تبدو بلا فحوى واضحة حتى الآن.

منعطف التهدئة

في ساعات الصباح، من يوم التاسع عشر من حزيران/ يونيو، دخل اتفاق التهدئة بين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة والجانب الإسرائيلي حيِّز التنفيذ. ورغم الشكوك الفلسطينية المعتبرة التي رافقت تبلوُر هذا الاتفاق، لجهة التزام حكومة الاحتلال وقواتها العسكرية باستحقاقاته؛ فإنّ مجرّد إبرامه وإبصاره النور، يجعل منه منعطفاً بكل معنى الكلمة.

فهي المرّة الأولى التي ترضخ فيها قيادة الاحتلال لوقف إطلاق النار مع المقاومة على أرضها الفلسطينية. وهي المرّة الأولى أيضاً التي يهرول فيها الاحتلال بمؤسساته صوب هذه التهدئة التي طلبها بطريق أمريكي وبوساطة مصرية. يعني ذلك؛ أنّ هناك ملامح معادلة جزئية جديدة قد تشكّلت، وما كان لها أن تتشكل إلا لاستعصاء غزة المقاوِمة على شتى الفرضيات العسكرية، التي كثر التداول بشأنها في أروقة صنع القرار الإسرائيلي.

فلا الاجتياح خيار ممكن، ولا الضربات العسكرية المكثفة تحقق الغرض، بالنسبة للمؤسسة الإسرائيلية بفروعها السياسية والعسكرية والأمنية. وإذا كان الحال على هذه الشاكلة؛ فلا مفرّ من الرضوخ للتهدئة، رغم الإقرار المعلن بأنّ المقاومة في القطاع ستغتنمها بعناية في التقاط الأنفاس وتطوير قدراتها البشرية والتسلّحية لتغدو أكثر منعة وكفاءة.

استمرار الحصار

لكنّ دخول التهدئة حيز التنفيذ؛ لم يأتِ بمفاجأة من قبيل إنهاء الحصار الخانق المفروض على قطاع غزة. فما زال المليون ونصف المليون فلسطيني القابعين في هذا الشريط الساحلي الضيق، حبيسي السجن الكبير، ومعزولين عن العالم.

لا يغيِّر من هذه الحقيقة دخول قوافل تقلّ نزراً يسيراً من حاجات القطاع من المواد الغذائية والوقود والمواد الأولية والسلع، لأنّ القرار الإسرائيلي بإبقاء الحصار ما زال قائماً.

وقد تكثّفت النداءات خلال ذلك من أوساط شتى، للجانب المصري، بأن يتخذ خطوة في مستوى التوقعات، بفتح معبر رفح، أو على الأقل بتمرير الحالات الإنسانية من مرضى وطلبة وعالقين بلا عراقيل. لكنّ النداءات اصطدمت بالبوابات الموصدة بعناية في الجانب المصري من المعبر، لتتبخّر التطلعات إلى خطوة جريئة تجعل شريان الحياة الوحيد بالنسبة إلى القطاع سالكاً.

الاحتلال يتمادى في الضفة

لم تخب التوقّعات القائلة بأنّ سلطات الاحتلال ستطلق يد جيشها في الضفة، بالتزامن مع رضوخها للتهدئة في القطاع. فهذا ما كان، بكل ما فيه من اغتيالات وتوغلات وعمليات اختطاف، وأكثر من ذلك.

فقد مضى جيش الاحتلال في تعقّب «من تبقى على القائمة» من المقاومين الفلسطينيين المطاردين، وأخذ يصعِّد من تنفيذ عمليات الاغتيال بحقهم، التي تقتنصهم تباعاً، مستفيداً في ذلك من التسهيلات الميدانية والمعلوماتية التي يجنيها من وراء «التنسيق الأمني» بين أجهزة السلطة الفلسطينية وأجهزة الاحتلال الإسرائيلي.

وقد تواصلت علاوة على هذا كلِّه، سياسة فرض مئات الحواجز على المواطنين الفلسطينيين في الضفة المحتلة، الذين ما زالوا يتحرّكون بين جزر معزولة، تفصل بينها تلك الحواجز، ويحاصرها بالمجمل الجدار التوسعي الاحتلالي الذي تحوّل إلى حقيقة ماثلة للعيان بكل ما يترتب عليها من تبعات مأساوية على حياة الفلسطينيين اليومية ومستقبلهم.


 

أما الاستيطان؛ فقد جرى التوسّع فيه، بخاصة في محيط القدس الشرقية. بل وتم تسجيل أسبقيات لم تجرؤ حكومة الاحتلال عليها منذ زمن بسبب الطلبات الأمريكية، كقرار تكثيف الاستيطان في الأغوار (عبر قرار ببناء مزيد من المنازل في مستعمرة «مسكيوت» المقامة شمالي الأغوار).

ويبقى أنّ الواقع الذي ترسمه سلطات الاحتلال وقواتها العسكرية على الأرض، في الضفة الغربية المحتلة، يشي بكل ما يناقض روح التفاوض والتباحث بشأن تسوية سياسية للصراع، إلا إذا كان ما يدور بدأب من ممارسات؛ مقدِّمة لفرض حقائق احتلالية أكثر حدّة، كي تنعكس على موازين القوى في أي اتفاق قادم.

دعوات للحوار.. بلا حوار

في منتصف حزيران/ يونيو، أي بعد مضيّ عام كامل على التحوّل الاستثنائي الذي شهده قطاع غزة؛ ألقى الرئيس محمود عباس، بحجر كبير في البركة الراكدة. فقد فتح عباس الباب أمام «حوار وطني شامل»، مسقطاً الاشتراطات الشهيرة التي طالما لوّح بها في وجه حماس.

سرعان ما ساد التفاؤل الساحة الفلسطينية، إثر الخطاب الذي خلا من العبارات والمفردات الخارجة عن روح الحوار، وهو ما أنعش آمال الفلسطينيين بردم الفجوة وتضييق شقة الانقسام المستفحل بين جناحَي السلطة، بالضفة وغزة، أو بحسبة الخريطة الفصائلية، بين فتح وحماس.

تفاؤل تشكّل سريعاً، لينقشع ببطء. فدعوة الحوار التي بوركت في تصريحات متقاطرة من شتى الأطراف؛ بقيت في واقع الأمر أسيرة العبارات اللفظية، أما الحقائق الملموسة على الأرض فظلّت تتحدث بلغة أخرى.

ربما أسدل ليل الخامس والعشرين من تموز/ يوليو، الستار على آمال الحوار المترتبة على دعوة رئيس السلطة تلك، لأنّ ما جرى على شاطئ غزة سيكون له ما بعده.

دماء وأشلاء في الساحة الداخلية

فعلى شاطئ غزة، المتنفس الوحيد للقطاع المحاصر، كانت جموع المواطنين الفلسطينيين، من شتى الأعمار، تستجمّ في هدوء استثنائي تحقق أساساً بتضافر عاملين اثنين؛ تهدئة مع جيش الاحتلال فرضتها المقاومة، وهدوء داخليّ في القطاع الذي تخلّى عن وصمة الفلتان الأمني.

لكنه ضَرْب جديد من الفلتان، والفوضى المسلّحة، الذي أطلّ برأسه على شاطئ غزة، عندما تم ليل الخامس والعشرين من تموز/ يوليو، تفجير عبوة موجّهة، بعد سويعات من تفجيرين اثنين شهدتهما المدينة.

ستة من الشهداء، هم طفلة وخمسة من كتائب عز الدين القسام، ذراع حماس العسكري، يقعون ضحايا التفجير الذي صدم الشارع الفلسطيني وأثار سخطاً واسعاً، وخاصة أنّ الحدث كان يمكن أن يحدث مذبحة واسعة لو وقع التفجير قبل دقائق فقط.

هو حدث استثنائي بكل المقاييس، له ما بعده، وقابل لأن يعود بتداعيات يصعب تقديرها، وأن يبعث هزّات ارتدادات متعددة الاتجاهات، ما زالت إرهاصاتها تتشكل لحظة إعداد هذا التقرير.

لقاءات مكثفة ولكن..

جرى ذلك كلّه وفي الخلفية تنشط اللقاءات مع الجانب الإسرائيلي التي تحوّلت إلى فعل مألوف على جدول الأعمال الرسمي الفلسطيني، يواصل استدرار الانتقادات المتصاعدة في الساحة الفلسطينية ذاتها.

هي اللقاءات التي تتمثل أساساً في اجتماع يلتئم كلّ أسبوعين بين الرئيس محمود عباس ورئيس حكومة الاحتلال إيهود أولمرت، غالباً في بيت أولمرت ذاته بالقدس المحتلة. وقد انطلقت قاطرة هذه اللقاءات المنتظمة تقريباً في الخريف الماضي، وجاءت بمبادرة من وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس، وما زالت ترعاها وتدعمها كلما حلّت في القدس المحتلة أو رام الله.

إلاّ أنّ ما قد يلفت الانتباه؛ تلك الزيارة التي قام بها الرئيس عباس إلى مقرّ الرئاسة الإسرائيلية لأول مرة، الكائن بالقدس المحتلة. فاللقاء الذي تمّ في الثاني والعشرين من تموز/ يوليو، جاء ودياً للغاية، وحافلاً بالثناء من جانب عباس على الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، دون أن يرشح من التصريحات التي ألقاها رئيس السلطة الفلسطينية أي إشعار بمضمون سياسي ملموس حتى الآن لجولات التفاوض المتواصلة.

مع ذلك قال الرئيس الفلسطيني: «إننا بمفاوضاتنا نسابق الزمن، وسيبقى الأمل موجوداً، إن وصلنا إلى شيء فهذا عظيم، وإن لم نصل فعلينا أن نشدّ العزم أكثر وأكثر، لكي نصل إلى السلام ولا خيار لنا غيره، خيارنا الوحيد هو المفاوضات السلمية للتوصل إلى السلام».

كلمات قد تكشف أنّ الانقسام في الساحة السياسية الفلسطينية بقي على حاله، بين نهج لا يرى خياراً غير السلام، وآخر يعوِّل على خيار المقاومة. ولكنّ قابلات الأيام الفلسطينية حبلى بمزيد من التطوّرات والتفاعلات بكل تأكيد.