مجلة العودة

حجارة السجّيل: المستقبل للقضية الفلسطينية

حجارة السجّيل: المستقبل للقضية الفلسطينية

مصطفى الصواف - غزة

لم تكن معركة حجارة السجيل معركة عادية. ظنّ الاحتلال أن جريمة اغتيال القائد الشهيد محمد الجعبري ستمر مرور الكرام، وفق ردود عسكرية معتادة: بعض الرشقات من الصواريخ المعتادة، ثم ينتهي الأمر بالعودة إلى حالة الهدوء المتفق عليها بين المقاومة (حماس) والاحتلال الصهيوني عبر الوساطة المصرية.فقد ظنّ الاحتلال أن حماس والحكومة مشغولتان بالحكم، مشغولتان بإعادة الإعمار، مشغولتان برضى الناس وشعبيتهما، وأنهما لن تردا بما لديهما من إمكانات يعلمها العدو الصهيوني، وبعد العملية ستكتفيان بردود معتادة. لكنّ العدو فوجئ بعد عملية الاغتيال بكثافة نيران قوى المقاومة، وعلى رأسها كتائب الشهيد عز الدين القسام، ما دفع العدو الصهيوني إلى اعتماد القصف العشوائي بكثافة كبيرة، ثم خرج قادته في مؤتمر صحافي يعلنون فيه أنهم دمروا 80% من القوة الصاروخية للمقاومة، وما إن انتهى المؤتمر الصحافي حتى كانت صواريخ المقاومة تضرب مدينة تل الربيع (تل أبيب)، وكذلك ضُرب محيط القدس وعدد من المستوطنات في الضفة الغربية.

العدو الصهيوني اعتقد أنّه باغتيال الجعبري سيُربك قيادة القسّام، وخاصة أنّ الجعبري يمثّل العقل المدبّر والقائد الميداني لكتائب القسّام، وباغتياله يُربك كتائب القسّام أو يشلّها لشهور طويلة. ونسي هذا العدو، أو تناسى، أن القسّام وحماس تنظيم مؤسساتي لا يقوم على فكرة الشخص الذي إذا قُتل أو مات سينتهي التنظيم. لكنّ حماس تنظيم قائم على فكرة "التنظيم المؤسسي" الذي يرسم سياسته المؤسسة والأشخاص، أو القيادات للمشروع هم أدوات تنفيذية لما ترسمه المؤسسة، وإن كانوا من يرسم هذه السياسة. لذلك، رغم الخسارة التي يمثّلها اغتيال الجعبري، إلا أن القسّام واصل عمله بانتظام ولم يحدث الإرباك الذي توقعه العدو، بل زاد على ذلك بأن أنشأ القسام وقوى المقاومة غرفة عمليات لتوحيد جهد المقاومة في مواجهة العدوان الصهيوني.

ضربت المقاومة قلب الكيان الصهيوني، وهذا الأمر أربك العدو منذ اللحظة الأولى، وجعل جبهته الداخلية مهددة مباشرة بما هو خارج عن كل الحسابات الأمنية التي خطط لها العدو. وأكثر ما فاجأ قيادة الاحتلال، ما أعلنته كتائب القسام عن صاروخ (أم 75) المصنوع بأيدٍ قسّامية وبمدى يصل إلى ما بين 70 إلى 80 كيلومتراً، إضافة إلى صواريخ فجر 5 و3 ذات الأبعاد المختلفة، التي كانت بحوزة كل من القسام والسرايا، والتي أُطلقت بنحو متوافق عليه في غرفة العمليات، حتى تتمكن المقاومة من تقنين عمليات القصف واستغلال ما لديها من إمكانات وتوظفها بإتقان يُطيل أمد المعركة، ويبقى القصف مستمراً، وإن كان بأعداد قليلة؛ فالعبرة ليست بعدد ما يُطلَق من صواريخ، بل في استمرار حالة الارتباك والخوف والرعب لدى الاحتلال ومستوطنيه.

معركة حجارة السجيل غيرت المعادلة على الأرض. غلطت على العدو حساباته ونقلت المعركة إلى قلب الكيان وحولت ثلاثة ملايين مستوطن إلى حالة من الرعب والهستيريا وأسكنتهم الملاجئ، ما شكل ضربة قوية للكيان وجبهته الداخلية، الأمر الذي لم يقدر عليه، رغم كثافة النيران التي صبّت على قطاع غزة والتي قدرت بما قصفت به قوات الاحتلال قطاع غزة في عدوانها عام 2008 ــ 2009، واستهداف المدنيين مباشرة حتى دمر البيوت فوق رؤوس أصحابها من الأطفال والنساء والشيوخ، وعائلة الدلو مثال، حيث أدى القصف إلى استشهاد عشرة من أبناء العائلة، وهناك الكثير من العائلات التي قصفت، ما أدى إلى استشهاد عائلات كاملة، وإن كان بأعداد أقل من شهداء عائلة الدلو.

العدو الصهيوني أراد أن يمارس ضغطاً على المقاومة والحكومة لوقف إطلاق النار تجاه فلسطين المحتلة حتى يحمي جبهته الداخلية من حالة انهيار. وإلى جانب ذلك، مارس حرباً نفسية وإعلامية ضد الجبهة الداخلية الفلسطينية، والنتيجة كانت على عكس ما أراد الاحتلال، حيث فشلت حملة العدو من خلال استهداف المدنيين، فالتفّ المواطنون خلف المقاومة وطالبوها بمزيد من القصف، وألا تلتفت الى ما يقوم به الاحتلال، الذي عبر عن هستيريا أصابت قيادته وإفلاس في استهداف المقاومة، وباتت الجبهة الداخلية أكثر تماسكاً وصلابة، وباتت دعايته مادة لسخرية المواطنين، فارتدّ السيف إلى نحره ليعيش حالة من الرعب والقلق، حتى تحقق في هذا العدوان توازن الرعب. بل فاق الأمر أكثر من التوازن رعب وخوف وقلق في المجتمع الصهيوني، وصمود والتفاف حول المقاومة ودعوتها إلى مزيد من القصف لمدن الكيان في عمقه.

وكانت النتيجة في اليوم الثالث أن حرك العدو الصهيوني أدواته في أميركا وأوروبا للضغط على الرئيس المصري محمد مرسي ليضغط على حركة حماس حتى توقف إطلاق النار مقابل وقف العدوان الصهيوني، وتواصلت اتصالات الرئيس الأميركي بالرئيس المصري الذي كان على تواصل مع قيادة حماس والحكومة لتقدير الموقف. وعلى ما يبدو، فإنّ الطرفين كانا رافضين لوقف إطلاق النار ما لم تتحقق مطالب المقاومة والحكومة التي رُفعت في ورقة تحمل أربعة شروط: وقف العدو لإطلاق النار، وقف سياسة الاغتيالات بحق القيادات الجهادية أو السياسية، فتح المجال أمام الصيادين إلى اثني عشر ميلاً جرى التوافق في المرحلة الأولى على ستة أميال بدلاً من ثلاثة، ثم شطب المنطقة العازلة التي فرضها الاحتلال على الشريط الحدودي الفاصل بين فلسطين المحتلة وقطاع غزة بعمق خمسمئة متر. رفض العدو في البداية، لكن نتيجةً لقصف المقاومة المستمر ورفضها في الوقت نفسه لشروط المحتل، استجاب الاحتلال لكل شروط المقاومة لوقف إطلاق النار، فكان ذلك إيذاناً بمرحلة جديدة فرضتها معادلة المقاومة وصمود الشعب الفلسطيني التي أكدت هذه المعركة أن العدو لم يعد وحده من يملك القوى، وأن لا مكان بات آمناً في مدنه ومستوطناته، وأن المعارك المستقبلية لم تعد خارج حدود الكيان، بل في قلب مدنه ومركز تجمعاته.

البعض يحاول التقليل ممّا حققته المقاومة من إنجاز، ويعتقد أن العدو كان بمقدوره القيام بعملية برية تجتاح قطاع غزة، لكنه هو الذي لا يريد خوض هذه المعركة براً، وأن قوة المقاومة ليست بمقدورها صدّ أي هجوم، وأن ميزان القوة مختل بدرجة كبيرة لمصلحة الاحتلال.

صحيح أن ميزان القوة هو لمصلحة المحتل، وأن ما لدى المقاومة لا يقاس إلى جانب ما لدى العدو من قوة، حيث إن تصنيف العدو الأقوى في المنطقة وضمن أقوى عشر دول من حيث الإمكانات العسكرية، والمقاومة ــ كما هو معلوم ــ لا تملك الكثير من الأدوات القتالية، لكن ورغم ذلك كانت حسابات العدو تقول إن أي عملية برية لن تكون في مصلحته، وإن المقاومة ستحقق إنجازاً لو كانت هناك معركة برية، وهذه كانت نصيحة الإدارة الأميركية أيضاً لقادة الاحتلال.

كان واضحاً خلال المعركة غياب طائرات الأباتشي، إلا في طلعات قليلة جداً وعن بعد لاستهداف أهداف دقيقة لا تُحدث تدميراً واسعاً إلا في الهدف المراد تدميره، ومعلوم أن أي عملية برية يجب أن يسبقها غطاء جوي، ولا يصلح إلا طائرات الأباتشي العمودية للقيام بهذا التمشيط قبل تقدم القوات البرية. ولأنّ العدو يدرك أن لدى المقاومة مضادات جوية في تقديراته (سام 7 وسام 18)، وهي مخصصة للطائرات العمودية، واستخدام المقاومة لها يعني خسارة كبيرة قد تصيب سلاح الأباتشي. لذلك، أمام هذا الخوف وهذه الحقيقة العسكرية، كان قرار المعركة البرية يحسب له ألف حساب، بل ربما كان خارج نطاق التفكير العسكري لحسابات الربح والخسارة. كذلك إن أي معركة برية قد تؤدي إلى مقتل الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني، مقابل مقتل أعداد كبيرة من جنود الاحتلال؛ لأن لدى المقاومة أدوات قتالية قد تؤدي إلى تفوقها على العدو عندما تكون المواجهة بين الجنود والمقاومة، ويكون فيها تحييد لسلاح الجو؛ لأن في حالة الالتحام يصبح الخطر أشد على جنود الاحتلال، لعدم تفريق القصف بين المقاومة وجنود الاحتلال، إضافة إلى الرأي العام الدولي، وكذلك التغييرات الإقليمية التي لم تعد إلى جانب الاحتلال بقدر ما هي إلى جانب الشعب الفلسطيني.

عوامل كثيرة ساعدت المقاومة في تحقيق إنجازها وانتصارها على العدو. نجمل هذه العوامل في عدة نقاط:

المقاومة وصمودها وأسلحتها المتطورة وقدرتها على ضرب العدو في قلب كيانه، إدارتها للميدان إدارة سليمة منظمة وترتيب العمل المقاوم من خلال غرفة العمليات المشتركة بين كتائب القسام وسرايا القدس وعدد من القوى المقاومة (الألوية وكتائب المجاهدين).

متانة الجبهة الداخلية والتفافها حول المقاومة وتأمينها من قبل الحكومة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية المختلفة التي كانت تعمل بطاقتها الكلية، رغم قصف قوات الاحتلال لكل مقارّها، لكنها لم تختف من الشارع، فكنّا نشاهد رجال المرور والأمن الداخلي والمباحث وغيرها من الأجهزة. ورغم أن الأجواء أجواء حرب، لم تُسجَّل حوادث سرقة إلا أربع محاولات ضُبطت في أقل من ثمانٍ وأربعين ساعة.

تحصين الجبهة الداخلية من الاختراق الأمني ومن الدعاية المضادة ومن الحرب النفسية والإعلامية، الأمر الذي أراح المقاومة، فلم تعد تلتفت إلى الخلف؛ لأنّ الجمهور يقف خلفها بكل أطيافه السياسية، وكان شغلها الشاغل مشاغلة الاحتلال والنيل منه.

أدى الإعلام الفلسطيني دوراً بارزاً في هذه المعركة، وكان له دور لا يقلّ عن دور المقاومة، وتمكن من اختراق الجبهة الداخلية للعدو، ولعب على وتر العامل النفسي، سواء من خلال ما كان يبثّ عبر الفضائيات التي عملت بنحو جيد جداً، حتى بات المشاهد الصهيوني يتابع وسائل الإعلام الفلسطينية بدقة. وسجل إعلامنا تفوقاً على الإعلام الصهيوني، رغم اختلاف المقومات والأدوات. على جانب الجبهة الداخلية، أدى إعلامنا دوراً كبيراً في صمود الجبهة الداخلية وتحصينها من خلال التعبئة والتوجيه وتقديم الحقائق عن المعركة بدقة دون مبالغة أو تهوين.

العامل الإقليمي وحالة التغيير التي حدثت في المنطقة الإقليمية، وخاصة مصر التي تحولت من عامل ضغط ودفع نحو الاستسلام، إلى عامل مساند للمقاومة وللشعب الفلسطيني، فكان موقف الرئيس المصري موقفاً عربياً شجاعاً، مكّن المقاومة من فرض شروطها، ودفع رئيس وزراءه والوزراء ولفيفاً من المتضامنين المصريين والعرب إلى الوصول إلى قطاع غزة وفتح مستشفيات لاستقبال الجرحى، وأبقى معبر رفح مفتوحاً على مدار الساعة. وكان عاملاً ضاغطاً على الإدارة الأميركية لتمارس ضغطاً على الاحتلال لوقف العدوان والاستجابة لشروط المقاومة.

وحدة الموقف بين قيادتي حماس والجهاد خلال التفاوض عبر الوسيط المصري، والتوافق على وقف إطلاق النار، والعودة إلى حالة الهدوء بشروط المقاومة، عززت وحدة الموقف المقاوم والسياسي.

خروج الضفة الغربية ومواجهاتها مع الاحتلال تأييداً للمقاومة ومناصرة لقطاع غزة ومشاغلة للاحتلال شكل عامل ضغط على الاحتلال الصهيوني خشية اندلاع انتفاضة جديدة وفقدان السلطة لسيطرتها وعودة المقاومة، وهذا يشكل خطاً أحمر لدى الاحتلال لا يرغب في تجاوزه حتى يُتمّ مشاريعه الاستيطانية والتهويدية دون أي معوّقات ويحفظ في الوقت نفسه أمن مستوطنيه وقواته في الضفة الغربية بفعل تعاون أجهزة السلطة في رام الله.

حجارة السجيل إلى ما انتهت إليه، شكلت معادلة جديدة وحققت نصراً للمقاومة، وكان من نتائجها:

- تغيير المعادلة الأمنية والعسكرية المقاومة للاحتلال وميل ميزانها إلى مصلحة المقاومة، وهذه الجولة لن تكون الأخيرة في المعركة، وستتبعها جولات قادمة أقسى وأعتى، وعلى المقاومة والشعب الفلسطيني أن يتجهزا لها على قاعدة إمكانية هزيمة العدو وكسره.

- أثبتت معركة حجارة السجيل أن خيار الشعب الفلسطيني هو المقاومة، والدليل على ذلك هذا الالتفاف الكبير من قبل المواطنين حول المقاومة، وبدا الأمر واضحاً خلال العدوان بشكل لافت وبعد العدوان بشكل أكبر.

- شكلت معركة حجارة السجيل وانتصار المقاومة وحدة حقيقية للشارع الفلسطيني في قطاع غزة وحولت جزءاً كبيراً من العيون التي كانت تراقب المقاومة في عدوان 2008 ــ 2009 إلى عيون تحمي المقاومة وتساندها وتدعم الجبهة الداخلية وتقطع دابر الشائعات وتطوقها، وكان واضحاً في الضفة الغربية من خلال خروج الناس في مواجهة الاحتلال.

- أثبتت معركة حجارة السجيل التفاف الأمتين العربية والإسلامية حول المقاومة، وأن فلسطين ما زالت تحتل مكانة عالية في قلوب الأمة ونفوسها، وكان هذا واضحاً في حجم التضامن ونوعيته، القادم إلى قطاع غزة خلال العدوان وبعد العدوان. وهذا يعطي مؤشرات واضحة على أن المرحلة القادمة هي مرحلة وحدة الصف والاصطفاف إلى جانب الشعب الفلسطيني وقضيته واعتباره القضية المركزية للأمتين.

كسر الحصار السياسي تجاه قطاع غزة والحكومة الفلسطينية برئاسة إسماعيل هنية، وفتح المجال أمامها واسعاً في التواصل مع المجتمع العربي والإسلامي والدولي.

- أثبتت معركة حجارة السجيل أن حركة حماس عصيّة على الانكسار والاحتواء، وأنّها حركة ذات قاعدة جماهيرية واسعة، وباتت تشغل وسط الملعب السياسي الفلسطيني، وأنها الحريصة على ثوابته وحقوقه والمؤتمنة على مستقبله.

فتحت معركة حجارة السجيل الباب واسعاً على حركة حماس وإمكانية قيادتها للمشروع الفلسطيني خلال المرحلة القادمة على قاعدة التحرير وإقامة الدولة على كامل التراب الفلسطيني دون الاعتراف بأيّ حق للمحتل على الأرض.

نحن أمام مرحلة جديدة تؤكد أن المرحلة القادمة هي مرحلة التمدد الفلسطيني والانحسار الصهيوني، وأن أولى خطوات التحرير قد تكون معركة السجيل التي يجب أن تُبنى عليها الاستراتيجية القادمة في التعامل مع المحتل، وهذا يتطلب وحدة الصف الفلسطيني على خيار مقاومة المحتل وإمكانية الاستعانة بكافة الأدوات الأخرى، كأدوات مساندة لتحقيق الهدف الأسمى، وهو التحرير وإقامة الدولة. ♦