مجلة العودة

أناستاسيا وسلام.. عندما تُبدع الفلسطينية بأدب العودة والغناء للوطن

أناستاسيا وسلام.. عندما تُبدع الفلسطينية بأدب العودة والغناء للوطن

الضفة الغربية/ زيد أبو عرة

من ظل الأجداد وعشق الأرض، من صرخة طفل وصمت الرجال، من خلف اللثام وفوق التراب وتحت اللحد، من مهد الأمومة إلى لحد اللامحدود، تدخل ميدانها كفرس توشحت ثوبها الفلسطيني المطرز، تحمل عودها العربي الشرقي الأصيل، تعزف لحناً لفلسطين، لحن الأرض والسماء، لحن المسجد والكنيسة، لحن الحرية والعودة، تغرّد بصوتها الشجي، تبدّد ظلمة زرعها مغتصب في ديارنا، تصنع أملاً حاولت طائرات محتلّ ودباباته أن تئده.

إنها سلام أبو آمنة، ابنة مدينة الناصرة. فيها نشأت، وفي حَواريها ترعرعت في أحضان عائلة تعشق الفن والوطن، عاشقة هي للموسيقى والأغاني الوطنية والكلاسيكية.

تحمل الفنانة سلامة أبو آمنة اللقب الأول في التربية، ومارست مهنة التعليم لأحد عشر عاماً، وقد اتخذت من فنّها الملتزم نهجاً لها وأسلوب حياة، فغنّت للوطن والأرض والأم والطفل والبيت وكل شيء جميل.

وفي حديث لـ"لعودة" عن عشق سلام للعود حدثتنا: "منذ نعومة أظفاري وأنا أعيش بين الأنغام وأستمع إلى عزف أبي على آلة العود، فأحببت تلك الآلة وأدركت سرها، وتعرفت إليها أكثر عندما بدأت أناملي تداعب أوتارها، فعشقت الغناء أكثر".

وعن دعم عائلتها لها، أكدت أبو آمنة أن لعائلتها كل الدعم في مسيرتها الفنية، وتضيف: "هي دعمت موهبتي وساندتني وشجعتني على الاستمرار والتقدم، والحمد لله، فالله أيضاً وهبني زوجاً داعماً، واليوم يساندني ويقف إلى جانبي في مسيرتي الفنية".

تؤمن أبو آمنة بموهبتها وفنها الذي تؤدي من خلاله رسالتها لجيل فلسطيني شاب يحلم بالعودة والحرية وأن يكون له كيانه الخاص على أرضه وفي وطنه، وترى فيه ضرباً من ضروب المُقاومة؛ فهو فنّ ملتزم يزيد الأجيال وعياً ويقظة، وأشارت قائلة: "في بداية مسيرتي الفنية أحببت الغناء لعمالقة الغناء العربي والكلاسيكي، أمثال أم كلثوم وعبد الوهاب وأسمهان وليلى مراد، لكن عندما كبرت وتزوجت وأصبحت أمّاً، تغير توجهي للحياة وأسلوبي الفني، فبدأت أعشق الغناء الذي يتكلم على داري وبيتي وأرضي وأمي، غنيت لكرامتي ووجودي وحريتي، فعشقت هذا اللون، وشعرت بأنني لست قادرة على غناء اللون الطربي، فانغمست في هذا اللون الوطني الملتزم الذي يتحدث عن إنسانيتي، وكل ما يجرح أمتي وشعبي، فحصرت نفسي في هذا اللون، وأنا سعيدة بهذا الحصار الذي بواسطته أبدعت وأجدت وأحسست بالغناء أكثر، وشعرت بأنني إنسانة قبل كوني فنانة، وأن غنائي يجب أن يكون هادفاً ملتزماً".

رفاق الدرب

سلام أبو آمنة اختارت لنفسها رفاقاً في حياتها الفنية: الثوب الفلسطيني المطرّز والعود، في كل حفلة وعلى كل مسرح، وعن ذلك قالت سلام: "إنني أشعر وكأنني أملك العالم عندما أرتدي ثوبي المطرَّز بألوان علمي، أشعر بأنني قريبة من أرضي وبيتي وتراب وطني. العود هو عشقي، وأصبح جزءاً لا يتجزأ مني. غنائي يكون له طعم آخر عندما أعزف ألحاني. وأيضاً العود أعطاني فرصة كبيرة لألحّن الكثير من القصائد والكلمات. أشعر بأنّ هذا الحضور الذي اخترته يعطيني الكثير من التميّز عن غيري من الفنانات، فالكثير يعرفونني بأنني الفنانة التي تعزف العود، وهذا شيء أعتزّ به".

وهنا تتكامل صورة المرأة الفلسطينية التي حملت الحجر، والتي شاركت بالبندقية، وأمسكت زيتونتها أمام جرافات الاحتلال، وترتسم زاوية أم الشهيد والأسير والجريح وأخته وزوجته وابنته وحبيبته، ويعلو صوتها مغنيّاً الشهيدة الأسيرة الجريحة المرابطة المقاومة. كل ذلك تراه أبو آمنة وتريده من خلال صوتها. وبهذا الشأن تقول: "من خلال الفن الذي أقدمه أريد أن يصل صوتي إلى كل بقعة في العالم، أريد أن يحمل صوتي همَّ الناس وجرحهم، ومعاناة الإنسان، وأنا كفلسطينية أرضي مغتصبة، وكرامتي مفقودة، أريد أن أنشر وأن أبعث رسائل إلى جميع الناس بأنّ هنالك شعباً لا يزال يعاني الحرب والاحتلال والقمع والتشرّد والعنصرية وهدم البيوت. لقد قمت بالكثير من الجولات الفنية في العالم، وخصوصاً في أوروبا، حيث كنّا نترجم الأغاني التي كنت أقدمها إلى اللغة الموجودة في البلدة، وهذا الشيء كان له الأثر العظيم في نفوس الأوروبيين، الذي زاد من تعاطفهم واحترامهم لشعبنا وقضيته".

الفن والانتماء إلى الأرض

ومن خلال متابعة سلام أبو آمنة ومشاركاتها الأدبية في عدد من المحافل، تعتقد بتميز الدور الذي تقدمه الأديبة الفلسطينية من شعر وقصص وغيرها من أشكال الأدب تميز الدور النسوي الفلسطيني الذي جسد المعاني الوطنية والإنمائية من خلاله، وتستطيع الأديبة الفلسطينية أن تعكس واقعاً تعيشه هي بكل جوارحها، ويكون تجسيدها لهذا الواقع أكثر صدقاً وموضوعية وشفافية، وبعاطفة مشبعة من عاطفة الأمومة: أمومة المرأة وأمومة الأرض.

وتعتقد سلام أن هذا اللون من الفن يرسخ التمسك بالأرض ويعزز الحسّ الوطني للفلسطينيين، ولا سيما في الداخل المحتل، وتضيف قائلة: "إن للفن الملتزم أثراً كبيراً في زيادة الوعي لدى الجيل الجديد للتمسك أكثر في أرضه ووطنه، وتعزيز روح الانتماء والترابط أكثر. وأنا من خلال خبرتي أرى كيف يتأثر الشباب والمستمع إلى هذا النوع من الفن، فالكثير يخرجون من الأمسية بالكثير من الشحنات الإيجابية التي تشعره بالاعتزاز والافتخار والكبرياء، وتزيد في نفسه حبّ الأرض والحياة". وتضيف أبو آمنة قائلة إنها تحمل من خلال الغناء للأرض والوطن رسالة إنسانية لكل العالم "بأننا نحن الفلسطينيين نريد كرامتنا، حريتنا، أرضنا، وأننا شعب يستحق الحياة" .

وترى أبو آمنة أنّ "ثمة كثيراً من المعوّقات التي تواجه الفنان الفلسطيني، وأهم هذه المعوّقات: المعوّقات المادية والأطر والمؤسسات التي تدعم الفنان الفلسطيني. نحن بحاجة إلى هذه الأشياء حتى نبدع أكثر، ويكون لنا إنتاج محلي نفتخر به، ونستطيع من خلاله أن تكون لنا بصمتنا الفنية على الساحة العربية".

وفي رسالتها للفنان والفنانة الفلسطينية على اختلاف أشكال الفن، وعلى اختلاف موقعيهما في الداخل والشتات، تبرق أبو آمنة رسالتها إلى الجميع قائلة: "أتمنى من كل الفنانين أن يكرّسوا فنّهم في خدمة قضية شعبهم، وأن يكون فنّهم حقيقياً، لا تجارياً أو مادياً. وأتمنى أن يزيدوا من إنتاجاتهم المحلية الخاصة لنصنع أغاني وهوية فنية خاصة بنا نحن الفلسطينيين، ونحن قادرون على الإبداع والخَلق؛ لأننا لا نقلّ إبداعاً عن غيرنا من الفنانين الموجودين في العالم العربي".

"ريحان وجنية الغيوم"

لم يقتصر الأدب النسوي، ولن يقتصر في قضايا العودة على فنّ الغناء، بل تعداه إلى كثير من المجالات. وفي حديث لـ"العودة"، كان لقاؤنا مع الكاتبة أناستاسيا ماهر قرواني، وهي فلسطينية من سكان مدينة جنين في الضفة الغربية، تعمل في مجال برمجيات الحاسوب وتقنيات الشبكات والمواقع الإلكترونية، وهي كاتبة شابة موهوبة، تجمع بين الكتابة في مجال قصص الأطفال وتصميم الرسوم الخاصة بقصصها، وهي صاحبة القصة "ريحان وجنية الغيوم" الفائزة بالمرتبة الأولى في جائزة العودة- حقل أدب الأطفال لعام 2012.

وتجذب الكاتبة في قصتها الأطفال عبر خلق وتصوير عالم سحري خلاب، وتُبدع في إبراز إيجابية بطلها الطفل ريحان، الذي يتوصل إلى تعلم مفهوم المشاركة، وحقه في المساواة كباقي أطفال العالم عبر التفاعل مع محيطه حتى يتمكن من إخبار الآخرين بهويته ووطنه المسلوب. يفارقنا ريحان مبتسماً وواعداً بأنّ المرة القادمة، أي العودة إلى العالم السحري، يمكنه أن يمارس طفولته وحقوقه بحرية، وستكون برفقة أصدقائه.

ويتمحور موضوع حقل القصة القصيرة للأطفال في مسابقة جائزة العودة لعام 2012 حول تعزيز القيم الإنسانية لدى الأطفال وتعزيز وعيهم لحقوقهم والمفاهيم الوطنية عموماً، وخصوصاً حقهم في العودة إلى ديارهم الأصلية التي هُجّر آباؤهم وأجدادهم منها، وقد استهدفت المسابقة فئة الأطفال ما دون10سنوات، وذلك لإغناء المكتبة بقصص إبداعية تسهم في تنشئة الأجيال الجديدة على القيم الوطنية والإنسانية.

وتتحدث أناستاسيا عن تجربتها في الكتابة في بحر أدب العودة قائلة: "عندما كتبت "ريحان وجنية الغيوم"، كان لديّ هدف واحد، وفكرة واضحة أردت إيصالها إلى الأطفال بصورة جميلة وغير مباشرة. كانت الفكرة تتمحور حول الهوية والوطن، ولكن التوصل إلى أسلوب مشوق ومناسب للأطفال احتاج منّي إلى تحرير أفكاري وإطلاق العنان لمخيلتي. حاولت أن أنظر إلى الأمور من زاوية طفولية، حاولت أن أستعيد طفولتي وأتخيل قصتي كما أحبها أن تكون، إن لم يستطع الكاتب النظر إلى العالم بعيون الأطفال، فلن يستطيع أبداً أن يكتب قصصاً لهم. هذا واحد من أهم المبادئ في كتابة أدب الأطفال، كيف توصل المفاهيم العميقة ببساطة، والبساطة شيء عميق بحدّ ذاته لا يتقنه الكثيرون.

وترى قرواني أنّ بإمكاننا أن نرسّخ ما نريد في عقول الأطفال من خلال تعاملنا وتربيتنا وأحاديثنا، وتؤكد أنّ عقل الطفل بيئة خصبة وخطيرة في ذات الوقت؛ لأنها قابلة لامتصاص كل شيء؛ فقدرة الطفل على تشرّب الأفكار والمبادئ والمعاني مذهلة، وأدب الأطفال يؤدي دوراً مهماً في تشكيل هوية الطفل وشخصيته، وهذا ما يدفع الدول الغربية إلى الاهتمام البالغ بأدب الأطفال، سواء من ناحية المضمون أو الشكل.

وأكدت أنّ كل كتاباتها لها بعد وطني، حتى لو لم تتحدث عن الوطن. وتعتقد أنّ الإبداع عموماً يحمل روحاً وطنية؛ لأن المبدعين في النهاية يشرّفون أوطانهم. وتؤمن بأنه لا مناص من الكتابة عن العودة والوطن؛ لأنه همّنا وألمنا المستمر، ولأنه في اعتقادها بإمكان الأدب أن يؤدي دوراً مهماً في تشكيل الوعي الوطني، وفي ترسيخ هوية وطنية بكل ما تحمله من قيم ومبادئ.

وأضافت الكاتبة أناستاسيا في ما تقدمه الأديبة الفلسطينية أن هناك أديبات فلسطينيات متميزات بحق، ويقدمن أعمالاً لافتة وعميقة. ومن وجهة نظرها، ترى أنّ المعوّقات التي تواجه الأديبات هي ذاتها المعوّقات التي تواجهها النساء عموماً في مجتمعنا، حيث يجب على الأديبة أن تتغلب على الكثير من القيود قبل أن تتمكن من التعبير عن هويتها بحرية وشفافية، وتبذل جهوداً مضاعفة لتنال التقدير والاعتراف بموهبتها ومقدرتها الأدبية.

ورغم المعوّقات المختلفة، مادية كانت أو اجتماعية، رغم كل ذلك، استطاعت الفنانة والأديبة الفلسطينية أن تصل إلى مختلف المجالات، وأن تدخل ميادين فنية عدة، تميزت بصوتها أو عزفها، تميزت بكلماتها المرسومة بحروف من حب، ولوحات عشق أبدية لا حدود لها، رسمت بصوتها بحروفها بألونها، رسمت قضية الأم فلسطين، قضية الأسير خلف السجون، قضية أبنائها المشردين المهجرين في كل أصقاع العالم، رسمت الحرية والعودة والدولة، رسمت أحلام طفولة يتيمة ودمعة رجل تنهار وصرخة طفل عاد إلى بيته آخر النهار، ليجد أن ما كان بيتاً أصبح ردماً، رسمت كل صورة، وأبدعت رسمها، وذلك ببساطة لأنها "أُمّ".