مجلة العودة

جعلت مفتاح العودة حليب الطفولة

جعلت مفتاح العودة حليب الطفولة
أمية جحا..أول رسامة كاريكاتير عربية مقاتلة

عبد الرحمن بكر- القاهرة

إذا كان "حقًا" لكل إنسان من اسمه نصيب، فلطالما تعجبت وأنا أقرأ اسم الرسامة الفلسطينية القديرة أمية جحا. هذا الاسم الذي جمع بين قوة "بني أمية" وتصميمهم وصمودهم، وحنكة "جحا" ودهائه وسخريته، إنها هي صاحبة الريشة المتفجرة التي حوت بها كل تلك المعاني، فكانت أقسى على العدو الصهيوني مما ينهال عليه كل يوم من صواريخ القسام. تمنيت كثيراً أن أكتب عن تلك الفنانة التي علمتنا كيف يكون حامل الرسالة، وعلمتنا كيف يكون الفنان مقاتلاً. تلك الفنانة التي انتقدت المؤسسات الصحفية لتفضيلها العنصر الذكوري في فن الكاريكاتير، ولكنها لم تنس أيضاً أن تنتقد المرأة صاحبة الموهبة لتقصيرها في إبراز موهبتها والقصور في الفهم العميق للأحداث، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، ومعرفة ما يحتاج إليه رسام الكاريكاتير. وهكذا، ولسنوات طويلة، نجحت فنانة الكاريكاتير الفلسطينية أمية جحا في أن تجعل الشعب الفلسطيني يفتح جريدة القدس وجريدة الحياة كل يوم ليجد آثار قتالها طوال الليل. يجد كيف كشفت ريشتها المستور، واستهانة بصهيونية العصابات الصهيونية، وفضحت أمام العالم أطماعهم، واستهانت بما زعموه من حق لا يملكونه، وجعلت أمل العودة قريباً. كيف صنعت من الأم الفلسطينية أرضاً جديدة للصمود ومن مفتاحها بندقية للعودة، ومن ثقب المفتاح خريطة لفلسطين.

زوجة الشهيدين:

وينطق الشعب لفلسطيني كلما ذكر اسمها بلقبها الأكثر شهرة وقرباً إلى قلوب أبنائه؛ لأنهم مثلها، وهو لقب "زوجة الشهيدين". نعم، فزوجها الأول رامي سعد، القيادي القسامي، استشهد في إحدى العمليات، فتحركت ريشة الفنانة، ونعته بلوحة كاريكتورية رسمته فيها بداخل حدقة عينها المحيطة له برموشها، وتركت دمعتها المرسومة وهي تنزف عليه دماً، فصارت تلك اللوحة نموذجاً للرقي الإنساني.

وقالت يـومها: إن إسرائيل لن تفـلح في إسكات ريشتها، وإنها ستـواصل مسيـرتها بالرغـم من جـراحها.

لكن الألم ما زال يُصرّ على محاصرتها، وكأن القدر قد جعلها رمزاً حياً للقضية، فما إن استقرت بها الحياة وتزوجت وأنجبت ابنتها الوحيدة، حتى جاء موعدها الثاني في الصمود؛ فها هو زوجها الثاني القائد القسامي وائل عقيلان يعاني هذا الحصار الصهيوني العربي الأثيم على قطاع غزة، الذي كان له أثره في استشهاده بعد منعه من السفر عبر معبر رفح لتلقي العلاج في الخارج، وقد كان مصاباً قبلها بشهر بانفجار في المعدة.

وحين تكررت المأساة، لم تستطع ساعتها ريشتها أن تسعفها، ولكنها انكبّت على أوراقها تكتب بلوعة قلبها شعورها في كلمات قليلة قالت فيها:

"أغمض عينيه.. ولكن ليس لينام هذه المرة.. بل كان يجاهد، ليمنع الدموع أن تسيل كنت أرى عراك جفنيه وارتعاشة أهدابه.. بينما لم يقوَ جفناي أن يصدا سيل الدموع الجارف.. كنت أبكي بصمت وأنتحب بلا صوت.

كان متعباً جداً.. وكنت حريصة على أن يحظى بقسط من النوم والراحة.. وكنت أوقن أن قبلتي التي طبعتها على جبينه عندما هممت بالخروج من المشفى لن توقظه. آثرت أن أمشي.. كانت خطواتي سريعة بسرعة دقات قلبي الموجوع لحال زوجي.. كنت أبكي بحرقة وكادت الدموع تخفي عني معالم الطريق، كل ما كان يهمني ولا يزال أني زوجة لا تريد أن تفقد زوجها بسبب الحصار". ولم تستطع أن تتكلم ساعتها أو ترسم؛ فقد كان الحصار يحصد خلفه الموت، لكنها بعد صمتٍ حزين تساءلت: "أليس من حقنا أن نعيش كباقي البشـر؟ لماذا تبقى معابرنا مغلـقة وموصدة الأبواب؟".

واستمر سؤالها يطرق أبواب الأنظمة العربية عبر خطوط ريشتها، ويُفزع الكيان الصهيوني عبر فضحها لجرائمه. وقالت يومها لـموقع "إسلام أون لاين.نت": "لا يُمكنني الحديث.. أنا حزينـة للغايـة.. ولا أكـاد أتخيل أنني فقـدت زوجي وائل بعد أن حرمني الاحتلال زوجي الأول رامي. إسرائيل تحترف اغتيال كل مساحات الفرح في حياتنا".

إنها "أمية جحا"، تلك الفتاة التي ولدت في مدينة غزة بتاريخ 2 شباط/ فبراير 1972م، وتخرجت في قسم الرياضيات بجامعة الأزهر عام 1995 بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، وكانت الأولى على جامعة الأزهر، وقد كانت مولعة منذ طفولتها بالرسوم المتحركة، وظلت تتساءل كيف تتحرك تلك الخطوط الجميلة وكيف تنتقل إلى عالم خيالي جميل، وكيف نعيش مع تلك الشخصيات المبتكرة ونتأثر بها. وعندما نضجت أدركت ما في هذا الفن الذي يصنعه الغرب من آثار هدامة لعقيدتنا وأخلاقنا وأجيالنا، فأرادت أن تخوض التجربة وتكون لها بصمة في هذا الفن، فصنعت استوديو "جحا تون"، لكنها اصطدمت بالواقع العربي المرير، وعدم وجود الدعم المالي الكبير الذي يتطلبه هذا الفن، فضلاً عن الحصار الذي يكبل حرية الفنان الفلسطيني.. وكانت تتدرب كثيراً على الرسوم التي تعجبها في الصحافة، مثل رسوم ناجي العلي ومحمود كحيل، وكانت كلما قلدتها في صغرها، كانت تجد التشجيع ممن حولها، فقررت أن تتحول من الهواية إلى طريق الاحتراف. وهكذا غزت ريشتها القوية الكثير من الصحف العربية والمواقع الخاصة بالتواصل الاجتماعي؛ فمنذ شباط/ فبراير 2002 تعمل أمية في صحيفة الحياة الجديدة اليومية، إلى جانب عملها في صحيفة الرسالة الأسبوعية منذ نشأتها عام 1996، إلى جانب عملها في صحيفة الراية القطرية، وصحيفة المدينة السعودية، فضلاً عن الكثير من مواقع الإنترنت، وأهمها موقع المركز الفلسطيني للإعلام، وموقع الداعية الإسلامي الأستاذ عمرو خالد. وتتمتع رسامة الكاريكاتير أمية جحا بعضوية جمعية ناجي العلي للفنون التشكيلية في فلسطين، وكذلك جمعية الفنانين التشكيليين، إلى جانب عضويتها في جمعية "Illustrator Agency" في بريطانيا. وقد نالت الفنانة الفلسطينية العديد من الجوائز، كان من أهمها الجائزة الكبرى التي نالتها في مسابقة ناجي العلي الدولية لرسوم الكاريكاتير2010 في إسطنبول بعنوان "فلسطين"، وجائزة الصحافة العربية لعام 2001 في الإمارات العربية المتحدة، وكذلك حازت جائزة الإبداع النسوي التي أقامتها وزارة الثقافة الفلسطينية في شهر آذار من عام 1999. ودشنت أمية موقعاً خاصّاً لرسومها على الإنترنت، فحازت لقب "صاحبة أول موقع كاريكاتير لرسامة عربية"، كما حاز موقعها المرتبة الأولى في مسابقة اختيار أفضل موقع كاريكاتير عربي.

وظلت دائماً تقول: من حقّ وطني عليّ أن أوليه الكمّ الأكبر من رسومي، لكنِّي أستنفر ريشتي للذود عن كل قضية عربية وإسلامية، ولا ننسى أيضاً أنَّ فلسطين هي أساس كل قضية للعرب؛ لأنها هي قضية العرب والمسلمين الأولى، وبالتالي هي حق على كل رسَّام عربي أو مسلم أن يكون لها الصدارة في أعماله.