مجلة العودة

صمت الغياب.. صوت الحضور أوسلو في وصية طيف الأب المقبور لجابر قميحة

صمت الغياب.. صوت الحضور
أوسلو في وصية طيف الأب المقبور لجابر قميحة


د. هشام محمد عبد الله/ العراق


يشكل عنوان قصيدة جابر قميحة "من وراء الغيب المجهول صاح طيف الأب المقبور" مفتاح قراءة النص الذي يمارس فيه الكاتب سلطة التوجيه ولفت المتلقي إلى الفضاء الذي عليه مراعاته وهو يقرأ النص. إنها تحكي خيبة أمل ولد فرّط في وصية والده الذي ترك له القضية الفلسطينية أمانة، فالطيف يمارس سلطة التحسر وتأنيب الآخر ولا شيء غير ذلك، وهو يحكي لحظة الفقد على نقض ما كان عهداً بين طرفي المعادلة، وهو الوصية التي كانت آخر ما يمكن أنْ يجعل الأب مرتاحاً بعد مغادرته الدنيا، ذلك أنّ لحظة الموت تستدعي ما من شأنه أنْ يكون أكثر إلحاحاً وأهمية، فكانت الوصية بأثمن ما يمكن أنْ يتركه المغادر للباقي وأهم ما يقلق بشأنه إنْ هو غادر الحياة. إن تشكيل النص يتوزع على لعبة الحضور والغياب، هناك صوت يتحرّك في النص هو صوت السارد الذي يحكي القصة، وقد تمثّل بالأب، وهناك في مقابل هذا الصوت صمت كان الأولى به أن يتلازم ويترافق مع الغائب/ الأب، بوصفه شخصاً غائبا واقعياً، ولكن النص ينسب هذا الصمت إلى ذات لا تزال حاضرة على أرض الواقع، ولكنها فقدت الحضور والفاعلية.
تنفتح القصيدة على استحضار هذا الطيف الذي لم يصبر على تغيير معالم الوصية، ومغادرته لعالم الغياب إلى عالم الواقع والحضور، ولهذا فقد جاء العنوان مذيّلاً بعبارة توضيحية تفشي مضمون النص ابتداءً، "من وراء الغيب المجهول صاح طيف الأب المقبور، يتحدث لابنه الذي أهدر تركة أبيه ونقض وصيته". إذاً هناك مغادرة لعالم مجهول ما فيه يكفي لانشغال الذات بوجودها هناك، ولكنه طيف يصيح ويصرخ للفت النظر إلى خطورة ما يعانيه، يظهر السارد هنا منذ بداية النص ليتولى الحضور الذي تحكّم في النص المسرود، على الرغم من حضوره طيفاً لا حقيقة، وتبدأ القصيدة باستفهام مكوّن من همزة الاستفهام الداخلة على (لم)، التي يبدو من خلالها طيف الأب مشفقاً هادئاً، يتضح منه مدى الألم الذي طاوله وهو يستعيد مع الابن/ الحاضر واقعياً والغائب فاعلية، وصيته التي ظنّ أنْ سيكون لها حضور في وعي الابن الذي سيخلف غياب الأب:
ألمْ أوصِك بالأمس قبل الممات
         فأين وصاتي التي ما وعـيت
إن الوصية ترتكز على مضامين واضحة المعالم، ولأنها قد تكون صعبة، وهو أمر طبيعي عندما يتعلق الأمر بهوية الإنسان ووجوده، فإن كاتب الوصية قد أفصح عن حقيقتها ووضع الابن في صورتها، حتى لا يستغرب أو يتنكر لها، يقول الشاعر مبيناً مكونات العهد والموثق الذي تركه أمانة عند ابنه الوارث:
وفيها كتبتُ: "تزول الجبال
               و لا تنحني أبـداً" فانحنيتْ
و فيها "ستعصف هوج الرياح
              فكــــنْ قمةً صلبة" فانحنيتْ
و فيها "سيمتدّ ليل الأســـى
            فلا تبتئسْ بالأسى" فانحنيتْ
و فيها "يكون جفافٌ وجوعٌ
        فمُتْ بالطوى شامخاً" فانحنيتْ
و فيها "انتصر بالثبات العتيِّ
                وبالصبر في عزَّةٍ" فانحنيتْ
وهذه الأبيات تقوم على تقرير ما اشتملت عليه الوصية من عهود. إن فاعلية الوصية انحاز إليها مقول الأب الواضح الصريح في التحذير من مهاوي السقوط الذي عبّر النص له بلفظ "الطريق" المحصور بين مزدوجتين، وهاتان المزدوجتان تقومان مقام (أل) العهدية، ما يجعل الطريق المقصود ليس أيّ طريق، بل إلى دلالة هذه الكلمة التي أخذت حيزاً في مفاوضات السلام المزعومة عندما استعملها المفاوضون ومنْ رعاهم لتذويب القضية الفلسطينية. إنها تعني (خريطة الطريق) التي لم تكن غير استلاب وتذويب للقضية في زحمة ملفات معلّقة من ملفات الشعب الفلسطيني. إن مجيء لفظ (انحنيت) ست مرات له دلالة تكرار الخضوع الذي سيكون سلوكاً طبيعياً عندما يفقد الإنسان إرادته ورغبته في حياة حقيقية.
 إن الوصية تقوم على تبيان العوائق التي ستعترض الابن، وأول ما طالب به الأب زمن الوصية هو الثبات على الموقف وعدم التزعزع. ويشير النص إلى أنّ المعوقات والظروف القاسية ستكون طبيعية في حياته، فكان ينبغي له أنْ يكون قمة تستعلي وتصمد أمام هجمات الآخرين في أيّ زمان ومكان، والوصية تبيّن حقيقة التعامل مع زمن القضية؛ فقد يبطئ النصر وتسودّ الليالي، ويطول الانتظار، وقد تتعرض الذات الوارثة لتجويع وحصار في الحياة ولقمة العيش، كلّ ذلك يمكن الذات مواجهته بموقف ذاتي يتمثّل بالثبات الذي لا يُقهر وبالصبر الذي هو خير زاد على طول الطريق واشتداد الأزمات، ولكن الابن يدخل إلى ساحة الخصم منسلخاً عمّا يتقوى به، فكان موقفه ووجوده ضعيفين، لا يقوى على التزام موقف أو عهد وقضية:
وعانقتَ فيها الأفاعي الكبار
            ومِنْ سُمّها يا غبيّ ارتويتْ

ويقوم السارد بتشييد الحالة النفسية والشعورية التي يمرّ بها بعد مجيئه من مرقده إلى عالم الواقع المؤلم التعيس:
فأينَ وصـاةُ أبيـك الذي
              إلى دفء مهجته قد أويتْ
كم سهر الليل يحمي حماك
              ويبكي دماءً إذا ما بكيتْ
ويحـمـل هــمـــومَ الحـيـاةِ
              ويرعى الذي بعدَه ما رعيتْ
إنه يعرض سيرة ذاتية له ولابنه، ويمارس البوح الذاتي المثقل بأنّات ما انتهت إليه وصيته، ومعلوم أنّ السيرة الذاتية في أحد مبررات كتابتها أنْ تكون تنفيساً لهذا القدر المتراكم من الحياة قصد إحداث العبرة لمتلقّيها، أو الدفاع عن الذات مما قد يلحقها بعد موتها، ولكن السارد هنا لا يتحقق له ذلك، بل على العكس فاستذكار هذه السيرة كان لحظة اجترار مستمرّة للألم الذي تجدد مع خيبة الأمل هذه، وهنا تنجلي المفارقة في أقسى صورها عندما يفاجأ الأب بهذا الطرف الذي قد عرفه مسبقاً ولم ينلْ منه في حياته، فنال من خَلَفِه فنقرأ هذا الجواب المرير عليه:
للصٍّ بغـــيٍّ عــــــتلٍّ زنيـــــــــم
            على قدميه، خسِئتَ، ارتميتْ
لتلثَمَ نعليهِ في ذلّةٍ
             وتلعقَ طينهما.. ما استحيتْ
إن الشاعر يستحضر انتهاك تاريخه وهويته بهذه الصورة، ويرسم شكل المأساة، وهو غير قادر على تغييرها؛ إذ إنّ فاعلية حضوره لا تصل الواقع ولن تغيّر من معادلة الصراع الذي قطع فيه شوطاً، لم يستطع الوارث أنْ يكمله أو ينهيَه، وهنا لا بد للشاعر من تشييد الصورة الممسوخة أمام ولده التي صار إليها، علّها توقظ فيه ما تناساه، ولكنه لا يفعل ذلك لأداء هذه الوظيفة، بل يقدّم للمتلقّي مشهداً درامياً يحكي السيرة الذاتية لإشكالية الإنسان وقضيته، هذه السيرة المكرورة التي يتعاقب عليها الجيل، وعلى الرغم من أنها أصبحت مشهداً منظوراً يتراءى للجميع، إلا أنّ الإشكال لا يزال قائماً في لحظة الضعف التي تستولي على الذات فيفقد وجوده وكينونته تحت وطأة النسيان أو التناسي برغبته واختياره أو باستلابه وتجريده من الآخر الخصم:
ولم تدرِ أنك حين اعتليت
                هبطتَ بما أنت فيه اعتليتْ
وفي موكب الذلِّ صرتَ الأمير
                ذليلاً كسيحَ المسارِ مشيتْ
فلمّا سكرتَ بخمرِ الخداعِ
             ومالت بك الخمرُ لما انتشيتْ
غدوتَ لغيرِكَ أُضحوكةً
          فليس سوى الخُسرِ ما قد جنيتْ
ولم يكن موقف الابن عند حدّ بيع الأرض والعرض والإيغال بدوامة الذات ونشوتها وما تحقق لها من مكاسب، بل كان طبيعياً لمنْ تأسره ذاته الضعيفة أنْ يتقلّب على فراش العار ويتحوّل في نهاية رحلته إلى آلة بيد الخصم، وهو ما يصفه الراوي بلحظة العار التي ولغ فيها:
وقلنا "اكتفيتَ بما قد جمعتَ
               من العار" لكنما ما اكتفيتْ
فعن قوس أعدائنا قد رميتَ
                فواحسرتاه على مَنْ رميتْ
بسهمكَ خرَّ عزيزٌ أبيٌّ
                بجمركَ قلباً طهوراً.. كويتْ
تنتهي القصيدة بشكلها السردي القائم على تسلسل منطقي للحدث، وعلى الرغم من كونها رسالة من طيف إلا أنها تأخذ قوّتها وحضورها من قوّة منطقها، إنه يرى الحقيقة التي غفلَ عنها الابن بعد تضييع هويته:
أأبكي عليك؟ أم أبكي لك؟
                 أأبكي علينا لما قد جنيتْ
ففي غدك المستباحِ الجريحِ
            ستصرُخُ "يا ليتني ما انحنيتْ"
وتعود الخاتمة لتؤكد بؤرة النص في أخصّ ما قصدت الإشارة إليه، قيم الأم والأرض والبيت، التي كانت تكثيفاً لمفهوم الهوية التي يُستَدلّ بها على وجود الإنسان:
وما دمتَ قد بعتَ حتى الحطامَ
          ولم تُبقِ أمّاً ولا أرضاً ولا بيتْ
فإنّي أخشى غداً أنْ تبيعَ
            عظامي وقـبراً به قد ثويتْ
وهنا يخفت صوت السارد وهو يستشعر غيابه الذي سيؤول إليه، فما عاد مهماً أن تتهدد هوية التاريخ بعدما وصلت إليه هذه الذات الممسوخة. إنها صورة الانسلاخ الكلي والجذري عندما تعيش الرفات زمن أزمة تنتظر من يستأصل وجودها ويمحق ماهيتها، عندها لن تتضرر الرفات بقدر ما سيتضرر منْ شهد بيعها أو أسهم فيه.