مجلة العودة

فلسطينُ وحُلمُ العودةِ في شعرِ محمود مفلح

فلسطينُ وحُلمُ العودةِ
في شعرِ محمود مفلح


مروان محمد الخطيب - طرابلس


يكادُ الكلامُ على فلسطين المكانِ والقداسةِ، يتداخلُ في الكلامِ عليها حُلماً بالعودةِ وأملاً بالانتصارِ، في شعر محمود مفلح. وهذا ليسَ غريباً عندَ أديبٍ مصقولٍ ومُهذَّبٍ بالثقافةِ الإسلاميَّةِ، ومندغمٍ في هوى القرآنِ الكريم، و في تجلِّياتِ السِّيرةِ العطرةِ للرَّسولِ العدنانِ مُحمَّدٍ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم.و الذي يتأمَّلُ أشعارَ صاحبِ أكثر من عشرة دواوين شعريَّة، ابتداءً من (مذاكرات شهيد فلسطيني- دمشق 1976 )، و ليسَ انتهاءً بِ ( لأنَّكَ مسلم- المنصورة في مصر)، يلمسُ من عناوينها ومضامينها، مدى عمقِ الرُّوح الانبلاجيِّ في باطنِ شاعرنا الذي أتحفنا بأشعارٍ نبَّاضةٍ بالشَّوقِ والحنين، ومغسولةٍ بسلسبيل ينسابُ ندىً خالصاً من القذى والوحول، ومشرفاً على شفافيةٍ معندلةٍ كالذي يبعثُهُ الهديلُ في أعماقِ النَّفسِ الآدميَّةِ الآمنة، الوادعة، والحالمة.
و إذا كانَ الإنسانُ وَفقَ تكوينِهِ الجِبِلِّي شديدَ التَّعلقِ بالأحلامِ، وصولاً للواقعِ المُشتهى، و"إذا كانَ قدْ كُتِبَ على المرءِ أن يفقدَ كُلَّ شيء، فإنَّ عليهِ أنْ يبحثَ عن شيءٍ لا يُمكنُ فقدُه" كما قالَ يوماً أرنستْ همنغواي؛ لذا نرى صاحبَنا يعيشُ الحنينَ إلى فلسطين المغتصبة، أمداءَ بوحٍ وأمل، وصوراً ناطقةً ومُغرِّدةً فوقَ سحائبِ العودة، و التي ستمطرُ ذاتَ صباحٍ بَهِيٍّ ظفراً وألقاً، وحُبَّاً وانتصاراً.
يقولُ في قصيدة "أُغرِّدُ بالقصيدةِ كُلَّ يوم" :
أحنُّ إلى روابيكِ الفساحِ
وألثمُ منكِ شقشقةَ الصَّباحِ
ويهتزُّ الفؤادُ على قوافٍ
لها من فيكِ رائحةُ الأقاحي
ولمْ أحنثْ بعهدِكِ طولَ عمري
ولمْ أحرص على دميَ المُباحِ"
يتجلَّى القصيدُ هُنا أضاميمَ مغسولةً بالشَّوقِ، ومُشبعَةً بماءِ الحنينِ الطَّافحِ حدَّ استرسالِ صاحبِهِ في دائرتي النُّكوصِ للمرحلتينِ الفميَّةِ والجنينيَّةِ، و ذلكَ رجعٌ غريزيٌّ وفطريٌّ يبرزُ في سياقِ الأداءِ التعبيريِّ بعفويَّةٍ صادقةٍ، بعيدةٍ عن التَّصنعِ والانتحال. فذكرُ الشَّاعرِ فعلَ "ألثمُ" والفمَ، شاهدُنا على النكوصِ الفموي، وذكرُهُ فعلَ "يهتزُّ" شاهدُنا الآخرُ على رغبةٍ جامحةٍ في الذوبان والعودةِ إلى النعيمِ الأوقيانوسيِّ في رحمِ الأرضِ التي أشرقَ عمرُهُ الأوَّلُ فوقَ تُرابِها، وهو وجهٌ ثانٍ للحني?ِ الدَّافقِ بحُبِّ الرُّجوعِ إلى أحشاءِ الأمِّ وفردوسِها الرَّحمي، حيثُ ظلالُ السَّعادةِ وارفةٌ بلا انتهاء. وهذا حسبَ رأي مَنْ ينتسبونَ إلى مدرسةِ التَّحليل النَّفسي للأدب، يحملُ إشاراتٍ بليغةً تنوبُ عن تلكَ الرِّغابِ العميقةِ في بيانِ عمقِ الانتماء إلى الفسحةِ المُتكلَّمِ عليها. و فلسطينُ تستحقُّ من شاعرِها كلَّ هذا الحُبِّ والهُيامِ، فهي الحِضنُ الأوَّلُ، والصَّدرُ الأوَّلُ، وهيَ نفسُها مرقى الأحلامِ، التي يعشوشبُ الأملُ فوقَ روابيها، و تتعالى الأصباحُ في سماواتِها المُزدانةِ بهواءٍ مُنتعشِ الأنفاسِ برحي?ِ الأقاحي وشذاها. و لأجلِ هذا، تستحقُّ هذه الأرضُ-الأمُّ من حبيبِها وابنها البارِّ أن يُضحِّيَ بدمِهِ من أجلِ المحافظةِ على عهدِ الرَّابطِ المقدَّسِ الذي يصلُهُ بها.
و في السيِّاقِ نفسِهِ نقرأ لهُ في قصيدةِ "طفلُ الحصار" :
"ويستيقظُ الطِّفلُ يوماً...
عُيونُهُ تجهشُ بالثأر...
بالانتصار
يجوبُ شوارعَنا المُقفره
تُحيّيهِ أشلاؤنا من بعيد
تُناديهِ كلُّ الجماجمِ في المَقبره
فيجهشُ بالرَّدِ...يُحجمُ، يهرب
لكن يعودُ ليملأَ من دمنا...مِحبره..."
إنَّ الكلامَ على الطِّفلِ الفلسطينيِّ هُنا، يحملُ دلالاتٍ على جانبٍ كبيرٍ من الأهمّية. فالطِّفلُ صورةُ المستقبلِ من الزمنِ والأيامِ الآتيات، وهوَ عنوانٌ يشيرُ برمزيَّتِهِ إلى مضامين عالية الفكرةِ، و تتمحورُ حولَ ثباتِ الحقِّ لأصحابِهِ وأهليهِ في فلسطين السَّليبة، و بالتَّالي، نقفُ أمامَ مشهديَّةِ هذا الطِّفلِ مُكبرينَ هذا السُّمو عندَ شاعرِنا مفلح، إذ أعلى سُدَّةَ وأثرَ هذا الصِّراعِ مع العدوِّ الصّهيوني الغاصبِ، إلى مرتبةٍ تُجهزُ على حُلمِ وزعمِ غولدا مائير التي ظنَّتْ يوماً بأنَّ موتَ الجيل الأوَّل من ال?َّازحين عن وطنهم فلسطين، كفيلٌ بأنْ يُنسيَ مَنْ يُولدُ بعْدَهم من سلالاتِهم وذُرِّياتهم الأرضَ التي ينتسبونَ إليها. و كأنّي بشاعرِنا يردُّ فكراً في أثوابِ الشِّعر على مثلِ هذه الأماني الكواذب، و مُبيِّناً واقعَ أطفالِ فلسطين، وهم يحلمونَ بالثأرِ من الأعداء، و يتجهَّزونَ لأسبابِ الانتصار، و يكبرونَ على ثقافةِ المقاومةِ، لا ينسونَ شهداءَهم، والأرواحَ التي زُهقتْ على مذبحِ قضيَّتِهم، بل يبلغُ فيهم مستوى الوعي والحرص، إلى صيرورةٍ ثقافيَّةٍ تُزاوجُ بينَ الحِبرِ والدَّمِ، استعداداً لخوضِ غمارِ المواجهاتِ مع هذا ?لعدو في كلِّ الميادين، وصولاً إلى تحقيقِ الحُلمِ الأكبرِ واقعاً ملموساً بسقوطِ الاحتلالِ وانهزامِهِ، وعودة فلسطين الرَّهينةِ إلى أُمَّتها وأهليها.
و في قصيدةِ "أُمنية"، يُحلِّقُ شاعرُنا في أمداءِ حُلمِ العودةِ، مستحضِراً أعيانَ الطَّبيعةِ كُلِّها أو جُلِّها لتعيشَ أجواءَ العُرسَ الكبيرَ، لا ينسى الماءَ، الغديرَ،الصباحَ، المساءَ، الضِّياءَ، الظِّباءَ، و لا حتّى الدجاجِ والأدياكَ، والخريفَ والشِّتاء، و فيها يقولُ بلغةٍ حُلميَّةٍ عاليةِ الخفقِ، ومنسرحةٍ في غنائيَّةِ بحرِ المُتقارب:
"إذا قدَّرَ اللهُ ليْ أنْ أعودَ
وأطويَ أوراقَ هذا السَّفرْ
وأرجع للبيتِ،بيتي القديم
وأهبط من ذلكَ "المُنحدرْ"
فإنّي سأحضنُ كُلَّ الوجوهِ
وألثمُ في البيتِ كُلَّ الصُّورْ
وأزرعُ ما عشتُ أغلى الزَّنابقِ
أروي بماءِ العُيونِ الزَّهرْ
وأُطلقُ قلبي الجديدَ الجديدَ
ليلعبَ في الرِّيحِ تحتَ المطرْ"
المُدقِّقُ والمُتأمِّلُ في مفرداتِ وتراكيبِ هذه المقطوعة من القصيدة، لا شكَّ في أنَّهُ سيعيشُ فيوضَ الحميميَّةِ والأُنسِ مع الطَّبيعةِ، التي أحسنَ شاعرُنا في توظيفِ عددٍ من المفرداتِ ذواتِ البُعد الإخصابي (حضن،لثم،زرعَ،روي،مطر)، لتأكيدِ المعنى الذي رغبَ فيهِ، ومالتْ نفسُهُ إلى عوالمِ عطائهِ وسحره. فاللَّثمُ والاحتضانُ، والزراعة والارتواء...، لها كُلُّها خاصِّياتُها ودورُها البليغُ في العمليَّةِ الإخصابيَّةِ لدى الأرضِ والإنسان. لكأنّي بابنِ سمخ، يجدُّ في الافصاحِ عبرَ لغةِ التلميح : حينَ يتحقَّقُ حُلمنا في?العودةِ إلى ديارِنا، سترونَ هناكَ حياةً أُخرى، مُترعةً بالولادةِ والعطاء، ومُزدانةً بالزَّنابقِ والزَّهر، و بأحلى الوجوهِ الفيَّاضةِ بأبهى التَّجلياتِ والصُّور.
و ثمَّةَ ملامحُ للحُلمِ بالعودةِ المكحَّلةِ بالأنوارِ والانتصارِ، نعثرُ عليها في مُتونِ دواوينِ شاعرنا مفلح، و منها قولُه مُخاطِبَاً الوطن السَّليب والمُغتصب في قصيدةِ "يا دار يا دار" :
وأنتَ علَّمتنا الإبحارَ في زمنٍ"
لا يمتطي الموجَ فيهِ غيرُ بحَّارِ
وأنتَ أعطيتنا ورداً وأرغفةً
وأنتِ أعطيتنا جمراً لآذارِ
فكيفَ لم تورقِ الأشجارُ في دمنا
ولمْ تُغَرِّدْ طُيورٌ فوقَ أشجارِ"
إنَّ الحاجةَ إلى الوطنِ-الأرض، تَرتقي إلى مستوى الحاجةِ إلى الحِضنِ-الأُمّ، كيفَ لا وهما يُشَكِّلان معنى الحياةِ والنَّماءِ، وسرَّ الاستمرارِ والبقاء، ومجالَ الحُلمِ والاشتهاء. من هُنا رأينا شاعرَنا يُضفي على وطنِهِ السَّليبِ رمزيَّاتِ الأورادِ والأرغفةِ، ثُمَّ يستحضرُ شهرَ آذار، وهو شهرُ ولادةِ الرَّبيعِ والأخضرِ، والشَّهرُ- الأسطورةُ المرتبطةُ عندَ كثيرٍ من أممِ الأرضِ بدلالاتِ الولادةِ والخصب؛ ما يؤكِّدُ على أهمِّيةِ الارتباطِ بالعراكِ والكفاحِ والجهادِ، من أجلِ الوصولِ إلى زمنٍ يصبحُ فيهِ الحُلمُ حقيقة?، وتعودُ فلسطينُ إلى راحاتِ وأنفاسِ أبنائها، و إذَّاكَ يكونُ النَّصرُ الكبيرُ والعودةُ الظَّافرة.
و يُتابعُ شاعرُنا مناجياً الوطنَ في القصيدةِ نفسِها :
"يا أيُّها الوطنُ المسفوحُ في دمِنا
لقد عشقناكِ في شمسٍ وأمطارِ
لقدْ عشقناكَ أمواجاً وأشرعةً
وأنجماً وتلاواتٍ بأسحارِ
لقدْ رسمناكَ في أحداقِنا قمراً
وفي المنافي ضممنا صدرَكَ العاري
نجوعُ نعرى وفوقَ الشَّوكِ خطوتنا
حتَّى يُطلَّ صباحُ الفُلِّ والغارِ"
هو ذا الوطنُ في تعابيرِ واشتهاءِ صاحبِنا مُرتقٍ، إلى سُدَّةِ العلوِّ والتَّسامي والرفعة. إنَّهُ ذاكَ المعنى الأكبرُ للخيرِ في الأرض، وهو يُماثلُ الشَّمسَ في حاجةِ النَّاسِ إلى دفئها ونورِها كي تنمو الكائناتُ الحيَّةُ من إنسانٍ وحيوانٍ ونبات. وهو يُشاكلُ الأمطارَ التي لا يمكنُ للنَّوابضِ أن تحيا من دونِها، كما يُشبهُ حُضورُهُ فلسقةَ الإبحارِ وما تنطوي عليهِ من قيمٍ معنويَّةٍ وماديَّة. و فوقَ كلِّ هذا وذاك، يرتقي الوطنُ إلى مواقعِ النُّجومِ وما لها من أثرٍ أبيضَ وناصعٍ في هدايةِ النَّاسِ آن يحلُّونَ، ووقتَ ي?تحلون، كي يبتعدوا عن الوقوعِ في أشراكِ الأتياهِ وضنكِ الضَّياع. وعدا ذلك، يبرزُ الوطنُ في لوحاتِ مفلح، مدىً من قداسةٍ(التلاوة، الأسحار)، فيها إشارةٌ بليغةٌ لموقعِ و يختمُ عشيقُ طبريَّة نزفَهُ في هذه القصيدةِ بما يُشبهُ الإعلانَ السياسيَّ : نتحمَّلُ الجوعَ والسَّغبَ والعطشَ، نتحمَّلُ أن نشقى ونعرى، أن يُنزفَ دمُنا، أن تهلكَ أرواحُنا، تلقاءَ الانتصارِ المُبين، وعودةِ فلسطين إلى زمانِ العزَّةِ والمجدِ، زمانِ الفُلِّ والقَرنفُلِ والغار.
و إذا كانَ لنا أنْ نختارَ بعضَ الأبياتِ الشِّعرية، لنختمَ بها فإنَّ القلبَ يقعُ في حيرةِ الباحثِ الذي تتجاذبُهُ كثرةُ الشَّوامخِ في قصيدِ شاعرِنا محمود مفلح، ليقعَ الاختيارُ أخيراً على رائيَّتِهِ الرَّوعةِ الخالدةِ "نقوشٌ إسلاميَّة على الحجرِ الفلسطيني"، والتي تقومُ في ثلاثةٍ وثلاثينَ من الأبيات المُتَّخذةِ بحرَ البسيطِ مجرىً وإيقاعاً لها. يقولُ في منتهاها :
هاتي الزَّغاريدَ يا أُمَّاهُ غالية"
فإنَّ أطفالَنا في القدسِ قد كبروا
...، وإنَّ هذا زمانٌ لاحَ عارضُهُ
وللعقيدةِ فيهِ القوسُ والوَترُ
من المساجدِ قدْ صاغوا ملاحمَهم
ومن مآذنِها الشَّماءِ قدْ نفروا
فكيفَ ينهزمُ الإعصارُ في بلدي
ولحنُهُ السرمديُّ الآيُ والسُّورُ؟!"
هوَ زمنٌ مُشرفٌ على الفجر، مُتَعلِّقٌ بتلابيبِ الرِّغاب، وبتحاليقِ الأنوار، و بروعةٍ مغسولةٍ بالزَّغاريدِ والبُشرى، تلكَ التي آنسَها الشَّاعرُ حُبَّاً، ألقاً، صُبحاً،ونصراً آتياً كاليقينِ الذي يعشِّشُ في قلبِهِ ورؤاه. ♦