مجلة العودة

في ذكرى النكبة: المقاومة تحمل القضية وتمنح المعنى

في ذكرى النكبة: المقاومة تحمل القضية وتمنح المعنى


ساري عرابي - رام الله


منذ خمسة وستين عامًا؛ والفلسطينيون يحيون ذكرى النكبة، أي ذكرى الحدث في لحظته الأولى، ذكرى فاتحة الكارثة الفلسطينية، فالنكبة حدث مفتوح ومستمر، لا باستمرار الاحتلال وحسب، وإنما باستمرار القضية الفلسطينية أيضًا، فنحن إزاء حالة خلق متجددة بلا توقف في الزمن المفتوح، للمعاناة، والبطولة، في آن، فمع المعاناة التي تولد في كل لحظة، تولد في مقابلها بطولة وحياة ورفض وثورة ومقاومة.
فالنكبة الفلسطينية مستمرة بهذا المعنى، لا باستمرار الباطل وحسب، وإنما بحياة الحق في مواجهته، وإلا لاستحال الباطل إلى معطى طبيعي في مشرقنا العربي، فنكبة العرب والمسلمين في الأندلس لم تكن أكثر من حدث حصل في التاريخ وانتهى، بموت المقاومة، وانقطاع المعاناة الأندلسية في الأجيال التالية على الأوائل الذين أخرجوا من الأندلس، وبالضرورة انقطاع الإيمان بالحق والعمل له.
لم يكن الفلسطيني أندلسيًا خرج وانقطع عن حركة التاريخ، وتضاءل حتى انتهى من وجدان الأحفاد البيولوجيين، ولا هنديًا أحمر يحيي ذكرى أيام باهتة في الذاكرة، على نحو رثائي أو فلكلوري، ولا ساكنًا أصليًا طبّع وجوده مع وجود مستعمر طارئ، تحول مع الأيام إلى صاحب وجود أصيل، وحاكم غالب. فالعدو في فلسطين بقي عدوًا وطارئًا ومحتلاً، وبقي وجوده شاذًا، ومقحمًا على التاريخ والجغرافيا، يضيق به الحاضر، ويهدده لفظ المستقبل.
بعد خمسة وستين عامًا، لا يزال الفلسطينيون ينتظرون على مشارف الوطن التي قاتلوا عليها عقودًا، وفي داخل الوطن، ورغم كل شيء، لم تعرف البندقية الفلسطينية العطالة، وبهذا –وحده- بقي الوجود الفلسطيني بلسانه العربي هو الأصلي الراسخ، المستبشر بيقين مذهل، بفلسطين كاملة وخالصة له من دون العدو المحتل الذي يتحسس وجوده في كل لحظة. نعم؛ بقي الفلسطيني أصيلاً واثقًا، والعدو غريبًا يائسًا.
لم تمت القضية الفلسطينية أبدًا، ليس فقط؛ لاستمرار اللجوء في مخيمات سوريا ولبنان، وإنما لأن البندقية الفلسطينية التي قاتلت عقودًا في الأردن ولبنان، قد انتقلت إلى داخل الأرض المحتلة، كي تنجز على الأسرلة نهائيًا، وتفرض حياة وديمومة الحق الفلسطيني على العالم بأسره، لا على العرب والمسلمين وحدهم، وقبل ذلك كي تمنح الوجود الفلسطيني معناه الحقيقي على كل ذرة تراب داخل فلسطين.
من أين لنا بكل هذا الدم الحار في عروقنا، لولا انتفاضة العام 1987، التي باغتت المحتل، وفاجأتنا نحن أنفسنا؟! باغت المحتل الذي توهم أنه انتهى منا تمامًا بعد خروج ثورتنا من لبنان، وإذا بنا ونحن نباغته بكل هذا العنفوان، نفاجئ أنفسنا وكأننا اكتشفناها من جديد، حتى صار النضال هو الروح التي نحيا بها، والمعنى الذي نطل به على أنفسنا أولاً وعلى العالم كله.
صارت الأسرلة كلمة من الماضي، أجهزت عليها انتفاضة الحجارة، بينما أجهزت انتفاضة الأقصى على كل مقولات التعايش، وأعادت من جديد إلى قاموس المحتل الحاضر، مفردات (حرب الاستقلال)، (وحرب الوجود)، بعدما تأكد له عجزه عن اصطناع جذور له في هذه الأرض المباركة.
في ذكرى النكبة، سوف نكتشف أن أجيالنا المتتالية على هذه الأرض، وعلى مشارف الوطن، والمنبثة في هذا العالم، تدرك قضيتها فقط من استمرار المقاومة والنضال، لا من مناهج التعليم، وحكايات الآباء والأجداد، وبرامج الإعلام، وفعاليات الأحزاب والفصائل، وخطط السلطة والمنظمة، ونشاطات المؤسسات والتجمعات.
هذه الفعاليات على ضرورتها وأهميتها، عاجزة عن حمل قضيتنا التي عنوانها النكبة واللجوء، فاستمرار الصمود الحقيقي، وبقاء المقاومة فكرة وممارسة -حتى تجذرت في انتفاضة الأقصى معسكرًا كبيرًا من الإعداد والتدريب في قطاع غزة- هو الحامل الوحيد لهذه القضية إلى الفلسطينيين أنفسهم ثم إلى العرب والعالم.
هذا لا يقلل من أهمية هذه الفعاليات، بل يدعو إلى إعادة النظر فيها، إذ سوف نكتشف أن المقاومة من حيث هي حامل القضية، ومانح المعنى لاستمرار وجودنا الأصيل، لا يمكنها القيام بكل شيء، كما أن الفلسطينيين ليسوا كلهم مقاومين بمعنى مقاتلين، وهو ما يثير السؤال حول دورنا جميعًا كأفراد، ومؤسسات، وأحزاب، وسلطة، ومنظمة تحرير، هذا فضلاً عن كون الاحتلال دائم العمل على اختراقنا واستهداف وعينا وشبابنا.
ففي اللحظة التي نجد فيها ثقافة النكبة وافرة لدى كل فرد فلسطيني، يمكن القول أن هذه الفعاليات تؤدي مهمتها على الوجه المطلوب، لكن الحقيقة أننا نجد فقرًا مخيفًا في المعرفة المتعلقة بالنكبة، من حيث هي حدث أول حصل في العام 1948، ومن حيث هي حدث لا يزال مستمرًا تحت عنوان القضية الفلسطينية، إذ على الأغلب لا تتجاوز هذه المعرفة العناوين العريضة حول حدث النكبة، والموضوعات الراهنة من القضية الفلسطينية، هذا إضافة إلى أن المسافة بين روايتنا ورواية العدو لا تزال بعيدة لصالح رواية العدو فيما يتعلق بوصولها إلى العالم، بل وأ?ثر من ذلك سوف نجد تصورات ظالمة ومجحفة عنا لدى إخوتنا العرب الذين يتحملون قدرًا من المسؤولية عن نكبتنا.
فأفضل ما يمكن فعله لذلك كله، فحص قصور هذه الفعاليات، والبحث عن كل جديد يمكن فعله.♦