مجلة العودة

أدب العودة: حكاية الشيخ عز الدين القسام مع الثقافة - ياسر علي

75 سنة على استشهاده
 هذه حكاية الشيخ عز الدين القسام مع الثقافة

ياسر علي/ بيروت

بعد خمسة وسبعين عاماً من استشهاد الشيخ عز الدين القسام، وبعد أن قدم المثقفون العرب الكثير عن حياته، أورد هؤلاء الكتّاب الشعر والأدب في عصر الشيخ القسام، لكنهم لم يقرأوه بعين النقد، فجاء ذكر الأدب والشعر واستخدامهما في حركته عارضاً.. غير أننا لا نستطيع المرور كراماً على هذا الجانب، ولم يكن أصلاً يستطيع القسام تجاهل هذا الجانب لو أراد ذلك.

لماذا؟

لأن الفن والتراث الشعبي كان متغلغلاً في فلسطين التي يمثّل الفلاحون أكثر من 70% من سكانها، وحيث لا يستطيع أن ينكر أحد تأثير الأغنية التراثية في حياة هؤلاء الفلاحين الذين اجترحوا الأغنية والنشيد والترويدة والردة والدحّيّة والسحجة والدلعونا والجفرا من يوميات عمل الفلاحين والرعاة..

ولقد أدّت الأغنية الفلسطينية دوراً أساسياً في تحفيز الثوار والمواطنين على الثورة مع القسام الذي أجج استشهاده (21/11/1935) الثورة العربية الكبرى بعده (1936-1939).

في العشرين من تشرين الثاني من سنة 1935، ارتقى الشيخ عز الدين القسام شهيداً على أرض فلسطين، في أحراش يعبد، بعد معركة كبيرة مع قوات الاستعمار البريطاني.. واليوم في الذكرى الخامسة والسبعين لاستشهاده، إذ نتناول –في أقلّ الواجب- دور الشعر والثقافة في حركة القسام، لا بد لنا من التعريج سريعاً على حياته المليئة بالجهاد والحماس والمقاومة..

مع الشعراء

لم يكن يخفى دور الشعراء العاميين في التأثير على الفلسطينيين، بل كانت أبيات الزجل تنتشر في أسماع الناس أكثر من الإذاعات وعلى ألسنتهم أسرع من الأغاني. وكان الشعر الشعبي هو وسيلة الإعلام الأقوى، حيث كان بعض التجار في تلك الفترة يستخدمون شعراء الزجل للإعلان عن بضاعتهم.

وقد ساهمت هذه الأشعار في تأجيج الثورة في فلسطين، فهذا «عوض» المحكوم عليه بالإعدام أيام الانتداب البريطاني، يخطّ على حيطان زنزانته في ليلته الأخيرة، قصيدة زجلية ما زالت إلى يومنا هذا من أبرز الأناشيد والمواويل الفلسطينية:

يا ليل خلّ الأسير تيكمّل نواحو

رايح يفيق الفجر ويرفرف جناحُو

تيمرجح المشنوق في هبّة رياحو

يا ليل وقّف تاقضي كل حسراتي

يمكن نسيت مين انا ونسيت آهاتي

ياحيف كيف انقضت بيديك ساعاتي

شمل الحبايب ضاع وتكسّروا أقداحو

لا تظن دمعي خوف دمعي ع أوطاني

وعكمشة زغاليل في البيت جوعاني

مين راح يطعمها بعدي، وإخواني

شباب اثنين قبلي ع المشنقة راحوا

وهذا الشاعر فرحات سلام يندد بوعد بلفور الأثيم أمام مجلس الجامعة العربية، عندما كان عبد الرحمن عزام باشا أميناً عاماً لها، بزجل صار يُغنى في الأعراس:

إن كان بلفور يجهل قيمة الأوطان

إحنا بأرواحنا نفدي أراضينا

نبيع أرواحنا بأبخس الأثمان

حقاً على الله ينصر المؤمنينا

يا مسجد الأقصى افرح لا تكن حزنان

لبيك لبيك هذا الزمان نادينا

حولك تلاقي بواسل بالحرب شجعان

نسقي إلى الأعداء زقوماً وغسلينا

ثم ما لبث أن برز شعراء الحركة القسامية، ولم تعد أغاني الأعراس تقتصر على الوصف الحسي أو الغزل أو أغاني الحب والعشق بل صارت كما صورها أحد الشعراء لاحقاً:

كنا نْغني في الأعراس جفرا، عتابا ودحيّة

واليوم نْغني برصاص عالجهادية الجهادية

وترددت في سماء البطولة قصائد الجهاد والشهادة، تستحث خطى الثوار وتغنيهم بما يليق ومقامهم الأرفع، وذلك عبر أغاني التراث كما في «زريف الطول»:

يا زريف الطول وارسم يا رسّام

صورة لفلسطين وصورة للقسام

وعيون الثوار والله ما بتنام

نصر يا استشهاد هذا شعارنا

لقد أدرك القسام أهمية الدور الذي يؤديه الشعراء في فلسطين قبل انطلاق حركته، ونحسب أنه حصل إثر عملية الإعدام الشهيرة التي نفذها الاستعمار في 17 حزيران 1930، في ساحة سجن عكا، الإعدام الذي شمل بالشهداء الثلاثة محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير (وهم ممن كان يحضر دروسه في جامع الاستقلال).. فألقى القسام خطبة نذيرية دعا فيها إلى اليقظة والجهاد والانتقام للشهداء.. وأبكت خطبته الناس وحمّستهم، غير أن أحداً من الناس لم يحفظها كما حفظوا حتى اليوم قصيدة نوح إبراهيم:

من سجن عكا طلعت جنازة

محمد جمجوم وفؤاد حجازي

ولعل القسام أدرك أهمية تأثير هذه القصيدة على الجمهور، فاستعان بالشاعر نوح إبراهيم، الذي أصبح بعد استشهاد القسام أحد قادة الثورة واستشهد في عام 1938، بعدما رافق القسام في معظم مراحل ثورته، وكان المروّج الإعلامي للمواقف القسامية، وأشعاره تؤرخ ليوميات الحركة الاحتجاجية الفلسطينية في تلك الفترة.

ومما يروى عن اعتماد القسام على شعره أنه في إحدى العمليات المهمة التي نفذها أحد أعضاء جماعته، عرف البريطانيون أن منفذ العملية فلاح يعتمر الحطة والعقال، فصدر الأمر باعتقال كل من يعتمر هذا الغطاء.. ومن المعروف أن كل حركة القسام لم تضم أغنياء أو مثقفين، رغم صداقته وقربه من عدد منهم كرشيد الحاج خليل وأحمد الشقيري وغيرهم..

وقد ضاقت الأمور على الفلاحين الفقراء في تلك الفترة، فقام الشاعر نوح إبراهيم بالترويج لاعتمار الحطة والعقال، حين أطلق أغنيته الشهيرة:

حطّة وعقال بعشر قروشْ

والنذل لابس طربوشْ

وبدأ الثوار ببيع الحطات للناس، ثم درج بيعها بشكل كبير، وانتشرت بين «الأفندية» أيضاً، وخاصة أن سمة العمالة ارتسمت على من يعتمر الطربوش..

رثاء شعراء فلسطين للقسام

لم يكن خبر استشهاد القسام ورفاقه خبراً عادياً، فقد صدرت الصحف العربية في فلسطين تحمل الخبر في العناوين الرئيسية..

ففي صبيحة يوم 22/11/1935 خرجت صحيفة الجامعة العربية بالعناوين الآتية:

- حادث مريع يهزّ فلسطين من أقصاها إلى أقصاها..

- معركة حربية حامية الوطيس تنتهي بمقتل خمسة أشخاص وجندي إنكليزي..

- شخص يقتل خطأ.. بلاغ من الحكومة عن الحادث.. المصاحف في جيوب الشهداء.. شماتة الصحف اليهودية..

- جنازة حافلة للشهداء في حيفا، وبرقيات التعزية.. وفود فلسطين.. الحكومة تأسر خمسة أشخاص وتحقق معهم..

وفي الأعداد التي تلت هذا العدد من الصحف الفلسطينية، كانت تصدر القصائد الرثائية في الشيخ القسام ورفاقه. ففي 25/11/1935، صدرت أولى قصائد الرثاء في الشيخ الشهيد في جريدة الجامعة الإسلامية، وهي قصيدة «شهيد فلسطين» أطلق شاعرها على نفسه لقب «الصارخ»، وقصيدة أخرى بعنوان «شهيد الوطن الخالد» لواصف عبد الرحمن من نابلس، وذلك في 27/11/1935.

ونشرت جريدة الدفاع قصيدة للأديب الفلسطيني (ابن خلدون) بعنوان «يا رحمتنا»، نقتطف منها الأبيات الآتية:

ما بين أرضِك أو سمائك .. آيٌ تتيه بكبريائكْ

قد حاولوا غمز الإباء وما دروا مغزى إبائكْ

قد ثرتَ تعلم أن ما تبغيه صعبٌ جد شائكْ

آثرت لقيا الله لما ضقت ذرعاً في قضائك

بين المهابة والجلالة سار ركبك والملائك

ولقد صمتّ فكان صمتك فيه معنى من وفائك

ما اخترت إلا ما يشرّف في ختامك وابتدائك

وقد أورد صاحب كتاب «جهاد شعب فلسطين» قصيدة للشاعر فؤاد الخطيب منها:

أولت عمامتك العمائم كلها

شرفاً تقصّر عنده التيجان

يا رهط عز الدين حسبك نعمة

في الخلد لا عنتٌ ولا أحزان

شهداء بدر والبقيع تهللت

فرحاً، وهشّ مرحّباً رضوان

أما شاعر حركة القسام نوح إبراهيم فنظم قصيدة بالعامية بعنوان «عز الدين يا خسارتك»:

عز الدين يا خسارتك رحت فدا لأمتك

مين بينكر شهامتك يا شهيد فلسطين

جمعت رجال من الملاح من شريت سلاح

وقلت هيا للكفاح لنصر الوطن والدين

واقرأوا الفاتحة يا إخوان عا روح شهيد الأوطان

وسجل عندك يا زمان كل واحد منا عز الدين

البيت الأخير يقودنا إلى قصيدة للشاعر نفسه أشهر منها، بعنوان «أبو إبراهيم ودّع عز الدين»، إلا أن هذه القصيدة لم تصدر بعد استشهاد القسام مباشرة، بل بعد عدة سنوات، وأحسب أنها في رثاء «أبو إبراهيم الكبير» القائد الأبرز في الثورة العربية الكبرى..

غير أن قصيدتين من البحر الكامل بزّتا كل القصائد السابقة في رثاء القسام، كانت الأولى للشاعر صادق العرنوس نشرها في جريدة «الجامعة الإسلامية» في 15/12/1935، نختار منها:

من شاء فليأخذ عن القسام

أنموذج الجندي في الإسلام

وليتّخذْه إذا أراد تخلصاً

من ذلّة الموروث خير إمام

ترك الكلام ووصفه لهواته

وبضاعة الضعفاء محض كلام

هذا الفدائي الجواد بنفسه

من غير ما نزعٍ ولا إحجام

إنْ يَقْضِ عز الدين أو أصحابه

فالسرّ ليس تكلّم الأجسام

هيهات تنزع أو تهي أثارها

هما استعان بمدفع وحسامِ

قل للشهيد وصحبه أديتمُ

حق الرسالة فاذهبوا بسلام

أما القصيدة الثانية، فقد جاءت رداً على بيان حكومة الانتداب الذي أعلن القضاء على عصابة من الأشقياء في أحراش يعبد، فهي للشاعر نديم الملاح بعنوان «سمّوك زوراً..»، نختار منها:

ما كان ذودك عن بلادك عارا

بل كان مجداً باذخاً وفخاراً

سمّوك زوراً بالشقي ولم تكن

إلا بهم أشقى البرية دارا

قتلوا الفضيلة والإباء بقتلهم

لك واستذلوا قومك الأحرارا

أنكرت باطلهم وبغي نفوسهم

فاسترسلوا في كيدك استكبارا

ورأيت كأس الموت أطيب مورداً

من عيشة ملئت أذى وصغارا

خلصت إلى الديان روحك حرة

فحباك منه في الجنان جوارا.

في الختام

هناك ملاحظتان لا بد من ذكرهما هنا قبل اختتام المقالة، هما: أن ما أوردناه من قصائد لا يتضمن إلا القصائد التي صدرت بعد استشهاد القسام مباشرة.

والملاحظة الثانية: أن طبيعة القسام فرضت نمطاً معيناً على القصائد (الدين، الأصولية، الجهاد، العمامة، الاستشهاد...)، لذلك فإن القصائد التي صدرت وقتها في الجرائد اتخذت صبغة إسلامية كانت بعيدة عن قصائد ذلك الزمان وأساليبها، ومردّ ذلك يعود إلى سعي القسام الدؤوب إلى إبراز إسلامية حركته وجهاده وإثباتها، بما أعاد الإسلام إلى الواجهة الثورية، كما قال عنه أحد الشعراء:

لهفي على القسام لهفة دمعة

تجري على خد اليتيم بلا انقطاعْ

فهو الذي سنّ الجهاد مجدداً

وأعاد –رغم الكل- تأصيل الصراعْ