مجلة العودة

أدب العودة: محطات شعرية في تجربة الأسير علي عصافرة

محطات شعرية في تجربة الأسير علي عصافرة
 

محمود مفلح/ دمشق

تجربة الأسر لدى شاعرنا علي عصافرة تجربة مختلفة تماماً؛ فالأسر عدو طاغٍ لئيم. والأسير مناضل هبّ للدفاع عن الأرض والعرض.

الديوان في تقديري وثيقة تاريخية أدبية تمثل تجربة إنسانية غنية، لها ما لها وعليها ما عليها، وإنه لمن الظلم إذ نحاكم هذا الديوان بمعايير نقدية صارمة ونطبق عليه ما نطبقه على الدواوين الأخرى.

والذي يتوغل في صفحات الديوان لا يسمع سوى أنات وحسرات وزفرات، وأمل ورجاء وإصرار على مواصلة الطريق ونقمة الشعوب التي نامت واستكانت.

يقول:

هذه الشعوب تعـفـنــت أفـــكـارهــا
 لا شيء يُحيي جثة بين الرممْ
 إن كان هذا حال من يحمي الحمى
 فاركـل بنعـلـك هذه الدنيا ونمْ

ولكن، ألا يحق للسجين أن يحلم بحياة هانئة عاشها من قبل، ويستحضر تفاصيل هذه الحياة ليخفف من قسوة السجن وعذابه؟

حتى ولو قال:

أين الكنائف والقطايف والقِدر
 والكعك والمعمول بالعجو انفجر
وهريسة شامية وفلافل
 وفواكه وعصائر تجلو الكدر

أما موضوعات الديوان، كما أسلفنا، فهي تدور في معظمها حول معاناة الشاعر وظروف حياته وعلاقته بأخوته من السجناء وآمالهم في الحياة الحرة الكريمة واحتسابهم وصبرهم على البلاء وتسلحهم دائماً بالصبر والصلاة.

لولا ركيعات ودمع هاطل
 في جوف ليل داعي الرحمن
 ضاقت بنا يا رب فرّج كربنا
 وتغمد المكروه بالإحسان

إلا أن هناك موضوعات لا تخطر إلا ببال السجين، كقصيدته التي قدم لها قائلاً لما أردت أن أهدي أمي وردة حال السجن دون ذلك فرسمتها ثم أهديتها عبر السطور أهديتها لعيون أمي جامعاً لطف الورد وقلبها المتودد.

ومن أكثر القصائد إيلاماً وحرارة، تلك التي سيعرض فيها شاعرنا أسماء أخوة له في السلاح نالوا شرف الاستشهاد فيما وقع هو في الأسر، وهؤلاء هم أحمد بدرا، باسل القواسمي، عز الدين مسك، وهم مجموعة العملية الاستشهادية التي أُسر فيها الشاعر:

وقضى الوداع علي قطع وصالهم
 بنصاله والدمع في الأجفان
 عند العناق تلعثمت كلماتنا
 والآه تقطر من فم الكتمان
 نرنو وجوها أشرقت أنوارها
 والقلب يرمق جنة الرحمن

ولا يُعنى الشاعر كثيراً في هذا النص وغيره باستخدام تقنيات القصيدة الحديثة كالانزياح والتناص والتضاد والترميز واستخدام الأسطورة والصورة المركبة وغير ذلك، خوفاً من خمود وقدة الشعر وهروب شحنة العاطفة المفاجئة، فالوقت لا يسعفه والحالة النفسية لا تسمح له والسجن يضغط حتى على الأنفاس.

ولهذا جاءت معظم قصائد الديوان واضحة جلية مباشرة خلت من المحسنات البلاغية.

وموضوعات هذا الديوان في معظمها تتميز بالخصوصية، خصوصية حياة الأسير وهاجسه والمشاعر التي تنتابه ليل نهار، كموضوع التوجس بعد إطفاء الأنوار في السجن وإيقاد الشموع ليواصل الأسرى سهراتهم وأحاديثهم.

يقول الشاعر في إخوة له في الجهاد سبقوه إلى الشهادة:

كأنهم الكماة أسود عزِّ ما انثنى
عزم لهم في غمرة الميدان
رحلوا ليحيوا في ظلال مليكهم
حيث النعيم وراحة الأبدان

هكذا هم هؤلاء الأبطال لا يحلمون إلا بالجنة ولا يستنشقون إلا عبيرها.

ومن الملاحظ على موضوعات الديوان أيضاً أنها بدأت تنداح أفقياً بعد أن كانت محصورة على موضوع التذكر والشكوى وقسوة الحياة في الأسر، كذلك نلاحظ أن ثورة العواطف بدأت تتزن ليتدخل الفكر ويرتب الأشياء.

إن ديوان الشاعر الأسير علي عصافرة وثيقة تاريخية أدبية محكومة بظرفها، منطلقة من واقع استثنائي، حكم فيه على الأسير بالسجن المؤبد أخذ نفسه بالصبر والاحتساب والقراءة والاطلاع وجرّب كثيراً حتى نضجت لديه الثمار أو كادت.

همه أن يعبر اللحظة الحرجة وأن يقتنص الفكرة العابرة وأن يستلهم الواقع المعيش من دون تنميق في العبارة والصورة. ولهذا جاء شعره حاراً ينبض بصدق العاطفة. وطزاجة اللحظة.

لم يلتفت كثيراً إلى فنية الشعر أو صقله أو شحنه بمعطيات الشعر الحديث وتقاناته، فجاءت القصائد واضحة العبارة قريبة الصورة مستقيمة الفكرة، تحضر في نفس القارئ التعاطف مع شاعرها.