مجلة العودة

ثقافة العودة: أدب العودة: المؤرخ شوقي أبو خليل البيساني.. حكاية لم تنتهِ بالموت - سمير عطية

المؤرخ شوقي أبو خليل البيساني.. حكاية لم تنتهِ بالموت
 
 

سمير عطية/ دمشق

لم تعتقد بيسان أنَّ أحد أبنائها البررة سيودّعها من دون أن تجمع جسده بين ذراعيها. لم تعتقد أن الطفل الذي كان يمسك بيد أهله وهم يرحلون قسراً عن ربوع الوطن وكان ينظر إلى بيسان باستمرار، تعب قلبُه المعنّى بآلام الأمة قبل أن تكحّل عيونها برؤيته.

حين غادرها طفلاً، كان في السابعة من عمره تماماً، فقد أبصر فضاء مدينته في أيار (مايو) عام 1941، ليسجل في ذاكرته وهو يرحل عنها أوجاعاً عاشت معه فأبدلها آمالاً وأحلاماً عظاماً يسطّرها في أسفاره ومؤلفاته وكتبه.

يومها.. لم تكن بيسان تعلم أنَّ هذا الطفل الذي تعفّرت أحلامه بتراب الهجرة، وترك شيئاً من دموعه على ترابها، لم تكن تعلم أنه سيكون سِفراً في سَفَرٍ طويل، ومحبرةً يغمس الواثقون بنصر الله أنَّ مع العسر يسراً وأنَّ بعد الإبعاد عودة.

القنديل الأول: في فضاء التعليم

كما تُحب بيسان وترغب، أشعل شوقي أبو خليل قناديله منذ الأيام الأولى لدراسته في دمشق الفيحاء، فتعلم في مدارسها، ومن ثم نال في جامعتها إجازة في التاريخ من كلية الآداب في عام 1965، في الزمن الذي كان يقترب من النكبة الفلسطينية الثانية. في تلك الفترة أيقن أنَّ النصر في القوة، وأول سهم في كنانة القوة العلم والإيمان، لذا لم يتأخر عن ركب التعليم فعمل مدرساً ومديراً في الثانويات، ثم رئيساً لقسم الامتحانات في مديرية تربية مدينة دمشق، ثم موجهاً اختصاصياً لمادة التاريخ.

كان كما تحب بيسان وترضى، في تصميمه وعزيمته، فالشام التي احتضنت أهله وشعبه فتحت منابرها للمتميزين، فصار عضواً في مديرية المناهج والكتب في وزارة التربية، وكان أستاذاً لمادة الحضارة الإسلامية والاستشراق بكلية الدعوة الليبية، وعمل محاضراً في كلية الشريعة بجامعة دمشق.

لم تنطفئ قناديله العلمية، فعمل أميناً عاماً لجامعة العلوم الإسلامية والعربية، ومديراً للنشر في دار الفكر من عام 1991 حتى وفاته في عام 2010.

وكذلك كان رئيساً لشعبة التاريخ والحضارة في معهد جمعية الفتح الإسلامي، وأستاذ التاريخ فيه.

القنديل الثاني: شوقي باحثاً

يقول الأستاذ محمد عدنان سالم، أحد مؤسسي دار الفكر ومديرها، عن الراحل الكبير: «جاءنا - على استحياء- عام 1968 يحمل بواكير سلسلته «المعارك الكبرى في تاريخ الإسلام»، يلتمس نشرها في دار الفكر متوجساً احتمال رفضها، فطمأنته إلى أنّ الدار لها معايير تقوِّم المادة المقدمة إليها للنشر في ضوئها، بغضّ النظر عن المدارس والانتماءات.

لقد شاء الله أن تكون هذه البواكير الفسيلة التي احتضنتها دار الفكر حتى ترعرعت فامتدت أغصانها أفقياً لتغدو ثقافة الشباب في الآفاق، وتنامت حتى جاوزت السبعين كتاباً للكبار والمئات للصغار، وحتى تماهى المؤلف والناشر بهذا العطاء، فغدا شوقي أبو خليل لا يُذكر إلا ذُكرت معه دار الفكر؛ ولا تُذكر دار الفكر إلا ذُكر معها شوقي أبو خليل مديراً لإدارة النشر فيها؛ يخطط ويتلقف ويقيِّم ويقوِّم وينقّح، تحيط به كوكبة من زملائه المتخصصين يناقشون ويجادلون حتى يُنضجوا معاً قرار النشر».

هكذا يتذكر أحد أهم صانعي الثقافة والمعرفة الراحل شوقي أبي خليل، فقد كتب المؤرخ الراحل عن معارك كبرى في التاريخ الإسلامي مثل القادسية واليرموك ونهاوند وذات الصواري، لأنه كان يرى فيها محطات مهمة، على الأمة أن تتوقف عندها لتنطلق من أجل تجديد عهدها بهذا التاريخ المجيد، هذا التاريخ الذي أشرقت فيه عام 93 للهجرة حكاية متميزة للدولة الإسلامية، فكان كتابه المهم «دمشق 93 هجرية.. الشمس في ضحاها»، عن مدينة دمشق وذروة الفتوحات الإسلامية التي بلغتها عام 93 هـ، أيام الوليد بن عبد الملك، حين فُتِحَتْ سمرقند والدَّيْبُل وطليطلة، وحين حوصرت القسطنطينية، وكأنني به بين سطور هذا الكتاب الذي رافقني في سفري ذات يوم يتغنى ببيسان وبتاريخ القدس وبأشواق اللد وبأمجاد الخليل، والحنين إلى زمن كانت فيه العزة لشعبه وأمته.

لم يتوقف الباحث عند المحطات المضيئة، بل أراد أن يقف عند أسباب سقوط فلسطين في أيدي الصليبيين، لعلّ الأمة تتّعظ وتحاول التغلب على ضياع فلسطين في التاريخ المعاصر، من هنا كان كتابه «الحروب الصليبية أسبابها، أحداثها، نهايتها»، حيث تناول فيه الحروب الصليبية والعالم الإسلامي قبيلها ومعركة ملاذكرت والحملة الصليبية الأولى واحتلال بيت المقدس وجهاد نور الدين زنكي، والحملة الصليبية الثانية وبطل حطين ونتائجها في استرداد بيت المقدس، والحملة الصليبية الثالثة ثم الرابعة والخامسة والسادسة والخوارزمية واسترداد بيت المقدس، والحملة الصليبية السابعة على مصر، والحملة الصليبية الثامنة وتحرير عكا ونهاية الصليبين، ليختم بالحديث عن محطة تاريخية لا تقل أهمية، هي حملة التتار.

ولست هنا في معرض التفصيل، فالتعليق والتفصيل والتوصيف لمؤلفات المؤرخ والباحث الراحل لا تقف عنده صفحات، فيكفي أن نشير هنا إلى أن الكتاب الذي أصدرته دار الفكر لمناسبة تكريم الراحل عام 2004 زاد عن ثلاثمئة صفحة.

لكن يجب أن نضع القارئ الكريم أمام بحوث مهمة عن الإسلام كتبها الباحث على مدى العقود التي عاشها مؤلفاً ودارساً ومعلماً، فلأن الإسلام الهوية والتاريخ والانتماء، ولأن الأمة عزّت به وكبرت، فلقد توقف ابن بيسان في هذا الميدان، كيف لا وهو يتفيأ ظلال التاريخ الأموي، وهو ابن تاريخ فلسطين بكل ما فيه من أبعاد فكرية وثقافية وأيديولوجية.

فقد ألف كتباً عن «تاريخ العرب والإسلام» و«الإسلام في قفص الاتهام» و«الهجرة حديث غيَّر مجرى التاريخ»، بالإضافة إلى سلسلة من الكتب عن عدد من المستشرقين الذين كتبوا عن ثقافة الأمة وفكرها، وحاولوا أن يشوّهوا صورتها وتاريخها وتجربتها في صناعة الحضارة الإنسانية.

وقد يُفاجأ القارئ بأن الباحث ظلَّ في لهفة يراعه وانسيابية قلمه، كان مؤلفاً رقيقاً، فكتب للطفل عشرات القصص المفيدة والهادفة التي لا تخلو من التشويق والمتعة، وكأني به تحت شجرة زيتون في بيسان، يكتب للطفل نفسه الذي غادرها مقهوراً مرغماً، فلعل في ذلك صناعة للجيل الذي سيعيد البسمة إلى وجه بيسان.

القنديل الثالث: في فضاء العلماء والأدباء

يقول الشيخ محمد رمضان البوطي عن الراحل: «رأيته، وقد استقدمته جامعة دمشق محاضراً في مقرَّر التاريخ الإسلامي على طلاب كلية الشريعة، كيف يستقطب الطلاب صباح كل أحد وأربعاء من الأسبوع، وكيف تفيض القاعة الكبرى بهم فيتضاغطون في الممر، وقد اشتد بهم الظمأ إلى أن ينصتوا إلى من أمكنه الله من كشف الزيف وإزالة غبش الجهالة، وتمزيق نسيج الافتراء عن حقائق التاريخ الإسلامي».

أما الباحث نزار أباظة فقد قال: «ما أقدم الدكتور شوقي على عمل إلا نجح فيه، وكتب الله له فيه التوفيق، ونال القبول، سواء بأعماله الكتابية أو بوظائفه المكتبية».

ويقول الدكتور بسام كسّار، أحد الذين تتلمذوا على يديه:

«في غرناطة.. في ساحة باب الرملة التي أحرقت فيها كتب العالم ابن رشد الأندلسي.. ذهب الدكتور شوقي مرتين لرؤيتها في نفس اليوم، مرة في الصباح وأخرى في المساء.. وفي صباح اليوم الثاني أصيب بنوبة احتشاء قلب حادة لانزعاجه مما رآه في اليوم السابق، وقد أسعف حينها إلى مشفى مدينة بسطة حيث أمضى عشرة أيام فيها».

لقد كتب الراحل عن فتوح الأندلس، يقرأ في التاريخ عنها وعن إشراقاتها فلم يتحمل قلبه الرقيق أن يراها وقد صارت أثراً بعد عين.

ولأنَّ الشعراء هم نبض الحكاية، فلعلنا نتوقف في محطتنا الأخيرة عند بعض ما كتبه شاعران كبيران، أما الأول فهو الشاعر مصطفى عكرمة الذي قال محتفياً بالشاعر عام 2004:

لك الجزاء من الرحمن أكرمه...... بما هديت وما أهديت عرفانا

يبقى بياني خجولاً كلما ذكروا...... ما كان منك وما من قولتي كانا

وحسبي الحبّ أن ألقاه يشفع لي....... لديك يا من بك الرحمن منّانا

وقد أضاء قنديل الرثاء الشاعر الكبير وليد قصاب حين جعل الدموع محبرة لقصيدة الوداع:

ما مات أهلُ العلم والآثارِ أسماؤهم تحيا مدى الأعصارِ

شوقي بحرفِ النور خلّد اسمَه وأضافه بجلالةٍ ووقارِ

ما مرّ ثم مضى كأنْ لم يأتِنا أو كان في الدنيا من الأغمارِ

حيث اتجهتَ ثمارُه مزروعةٌ ما غادر الدنيا بغيرِ ثمارِ

رحل البيساني الدمشقي الجميل إذاً، هذا الذي كان يُحيّيك بأدب ويهديك ابتسامة شفافة، ويمضي إلى مكتبه ليواصل أبحاثه، ويجلس معنا بتواضع العلماء حين كنا نُعد لاحتفالية ثقافية خاصة بالقدس، ليزرع معرفة ويشعل قنديلاً في ليل الاغتراب، ينتظر يوماً مظفراً بعودة كريمة وحرة إلى فلسطين.

لكن الرحيل عاجله، ووافته المنية في يوم الثلاثاء الواقع فيه 14 رمضان 1431 هـ، الموافق له 24 آب (أغسطس) 2010.

رحم الله هذا النجم الذي سيظل مضيئاً في سماء الأمة، يرسل إلى وطنه أشعة الأمل وضياء النصر القادم.