مجلة العودة

ثقافة العودة: أدب العودة: تواصلت فصول الشتات.. فهل يواصل القلم الحكاية؟ - سمير عطية

تواصلت فصول الشتات.. فهل يواصل القلم الحكاية؟
الفلسطيني: من لهيب النكبة إلى سعير التشرد
 

سمير عطية/ دمشق

لم أكن بحاجة إلى قراءة رواية «رجال في الشمس» للشهيد غسان كنفاني أو مشاهدة مسلسل التغريبة الفلسطينية للأديب وليد سيف. لم أكن بحاجة إلى ذلك لأعرف عن معاناة الفلسطينيين وهم في طريق المعاناة يبحثون عن ديار «الإقامة» و«لقمة العيش»!!

لم أكن بحاجة إلى كل ذلك، فوالدي الذي دخل إلى الكويت من طريق البحر في أوائل خمسينيات القرن الماضي، وتحديداً في عام 1952، حين خاض مغامرة من مدينة البصرة إلى ساحل منطقة السالمية في الكويت، ومحاولات صاحب القارب التخلص منهم عند أقرب صخرة في مرحلة جَزْر البحر، زاعماً أنهم قد وصلوا، أخبرني أكثر من مرة بهذه المعاناة، وروى لنا هذه القصة المريرة التي تشابه فيها المضمون واختلفت التفاصيل عن حكايات فلسطينية أخرى!!

في عام 1963م كان الروائي الشهير غسان كنفاني يحوك من معاناة آلاف الفلسطينيين رسالة أدبية إلى العالم من خلال روايته الشهيرة «رجال في الشمس»، ليقرأ الناس فصلاً جديداً من فصول نكبة فلسطين على أهلها وشعبها:

«لم يكن أي واحد من الأربعة يرغب في مزيد من الحديث.. ليس لأن التعب قد أنهكهم فقط، بل لأن كل واحد منهم غاص في أفكاره عميقاً عميقاً.. كانت السيارة الضخمة تشق الطريق بهم وبأحلامهم وعائلاتهم ومطامحهم وآمالهم وبؤسهم ويأسهم وقوتهم وضعفهم وماضيهم ومستقبلهم.. كما لو أنها آخذة في نطح باب جبار لقدر جديد مجهول.. وكانت العيون كلها معلّقة فوق صفحة ذلك الباب كأنها مشدودة إليه بحبال غير مرئية».

يقول عنها الكاتب مهند صلاحات: رواية الشهيد غسان كنفاني، كباقي رواياته، حشدت أكثر ما يمكن أن يقال فيها من محاولات استقراء للماضي أو واقع الرواية أو مستقبل الشعوب العربية، وتحديداً الشعب الفلسطيني الذي جاءت الرواية لتحكي وقائع نكبة عام 1948 التي ألمت بالشعب الفلسطيني وأنجبت جيلاً من اللاجئين الفلسطينيين.

لقد فرضت هجرة البحث عن ديار «لقمة العيش» تراجيديا جديدة ومأساة من نوع خاص على الفلسطيني، تراكمت أحداثها وسار بحديثها الركبان، فما كان من الأديب إلا أن صاغها ببيانه الأدبي نصّاً تكاد الدموع تبلل الأوراق التي كتبت عليه.

أما مسلسل «التغريبة الفلسطينية» الذي أُنتج عام 2004 فقد شهد جمهور المشاهدين والنقاد أنه اقترب من تصوير القضية بأبعادها منذ ثلاثينيات القرن الماضي ووصولاً إلى نكسة حزيران (يونيو) عام 1967، ولأن الحديث في هذا المقال عن هجرة الفلسطيني. فلقد صور الكاتب وليد سيف قصة الثلاثة الذين خرجوا من مخيمهم في طريقهم إلى الكويت عن طريق الصحراء من العراق، وكيف ضللهم الدليل «الضال» ففقدوا واحداً منهم في درب الآلام!!

ورغم هذا الوجع المستند إلى حكايات حقيقية، فإن الكاتب وليد سيف يرى أنَّ مسلسل التغريبة الفلسطينية، تمكن من إحياء ذاكرة كانت مهددة بالطمس، ولا سيما من الأجيال الجديدة. مؤكداً أن الفلسطينيين شاهدوا أنفسهم في هذا العمل، فبعضهم شاهد شخصيته أو شخصية والده أو جده، وشعروا بأنهم عاشوا أعمالاً سابقة ثانية، والدراما -بلا شك- تنشّط الذاكرة، والأجيال الجديدة التي لم تمر بهذه المراحل بدا أنها ورثت ذاكرة آبائها وأجدادها، ومن هنا كانت استجاباتهم لا تقل عمن هم أكبر منهم سناً.

عن هذا المسلسل ومسلسل «عائد إلى حيفا»، قال الكاتب ماهر منصور في مقالة له إنَّ العملين بمضمونهما كانا يؤسسان لحالة جديدة من الدراما العربية التلفزيونية بالتعاطي مع القضية الفلسطينية، وبأسلوب يخرج من حيز الخطابة والحماسة المجانية، نحو محاكمة موضوعية وجريئة للماضي بكل تفاصيله في محاولة للاقتراب من حقيقة ما حدث.. من دون أن يُسقطا التفاصيل الإنسانية، التي بدت هي المحور الرئيسي للحكاية.

في عناوين الإبداع

مثَّلت النكبتان في عامي 1948 و1967 مرحلة جديدة في تاريخ الأدب الفلسطيني، فعاش الأديب مثل أبناء شعبه ألم الرحيل والتشرد والاغتراب، وكان يشعر باستمرار بأنه مطالب بأن يكون على مستوى الحدث، وفي أضعف الأحوال كان القلم فرصته ليبث العالم أحزانه. ففي مجال القصة حيث نركز الحديث في هذا المقام، كتب إبراهيم جوهر مجموعة بعنوان «تذكرة سفر»، وسطر أحمد أبو حليوة «سعير الشتات». أما أمين الشنار فكتب «بابا نويل لا يهدي وطناً»، وكتب غريب عسقلاني مجموعته التي عنْوَنها بـ«النورس يتجه شمالاً»، وكتب أمين الشنار روايته «سماء»، وعشنا مع «رحيل» هموم الأديبة جهاد الرجبي ابنة مدينة الخليل، وغيرهم العشرات من كتاب القصة والرواية، فضلاً عن مئات الأعمال الشعرية التي عاشت هموم الهجرة والشتات والاغتراب في العنوان والمضمون.

الهجرة.. إبداع بمحابر الوجع

قسَّم عبد الرحمن ياغي (حياة القصص) إلى أربع مراحل في كتابه الشهير «حياة الأدب الفلسطيني.. من النهضة إلى النكبة».

ولعلَّ قصة «الأخوات الحزينات» لنجاتي صدقي التي تحكي عن خمس جميزات يتحولن إلى فتيات يندبن حظ الوطن ويبكين الأرض التي سلبها اليهود وهدموا ما عليها وأقاموا بناء لهم، من أوائل القصص التي تكتب عن إرهاصات النكبة وما تبع الشعب على إثرها من شتات وهجرة.

نذكرها في هذا السياق لأهمية تطور المضمون في القصة والرواية التي انعطفت بحدة بعد النكبتين، ولكن نجد في مثل هذه الأعمال بذوراً لما كُتب بعد ذلك عن استلاب الوطن الذي صاحبه الشتات والمنفى.

وفي مؤتمر «التطور الثقافي في الأردن وفلسطين في القرن العشرين» الذي أقامته كلية الآداب بجامعة الزرقاء الأهلية في الأردن في أيار (مايو) عام 2002، توقف الباحثون في دراسة الروايات عند مراحل ثلاث، تمثلت الأولى في الفترة بين النكبتين (1948-1967)، والثانية في الفترة ما بين (1967- 1973)، أما الثالثة فكانت ما بين (1973- 1990).

بمعنى أن القصص والروايات مرت خلال عقود بمراحل سبع إلى عام 1990 وفق هذه الدراسات، وقد ارتكز التقسيم الزمني في المؤتمر لمراحل دراسة الروايات كما ذهب الباحث توفيق أبو الرب على أحداث كبيرة أسهمت في تطور الرواية، وهي في الغالب ثلاثة: حرب 1948 وحرب عام 1967 وحرب عام 1973، مع إقراره بوجود عوامل أخرى لها علاقة بالوطن ساهمت في إبداع الرواية وتطورها في الأردن.

ويضيف الباحث أبو الرب في مكان آخر من دراسته المهمة قائلاً: إن رواية الاغتراب عن الوطن تظهر على نحو واضح قوي.. فقد ازدادت الهجرة للعمل في دول الخليج، بعد ما سُمِّي سنوات الطفرة البترولية التي أعقبت حرب عام 1973.

ولعلَّ قارئنا الكريم يدرك الآن الربط بين مراحل الشتات وانعكاسها في الأدب عموماً والقصة والرواية خصوصاً، وأهمية رواية مثل «رجال في الشمس» وريادتها لهذه المضامين رغم قسوة أحداثها على نفس القارئ.

ولعلنا هنا نلفت إلى رواية «الطريق إلى بلحارث» التي وضعها القاص جمال ناجي، عن اغتراب شاب في السعودية ومعاناته مع زملائه من آلام الغربة، ورواية «الأبله» لفايز محمود التي تحاول تصوير احتلال الوطن والشتات بأسلوب فلسفي رمزي.

أمام هذه النماذج لا يمكن أن نتجاوز دراسات مهمة تحدثت عن مضمون الهجرة والشتات في القصص والروايات، ومن هذه الدراسات الأكاديمية رسالة الماجستير للأستاذ عادل الأسطة حول «القصة القصيرة في الضفة الغربية وقطاع غزة بين 1967 -1981». وكذلك ما كتبه صبحي النبهاني عن البعد الإنساني في رواية النكبة، وما كتبه صبحي الشحروري عن القصة القصيرة في الأرض المحتلة، وليس بعيداً دراسة صالح أبو أصبع عن الرواية الفلسطينية والمنفى، الجزيرة العربية مكاناً، دراسة في التجربة الروائية الفلسطينية.

وكذلك مع عبد الرحمن ياغي في الأدب الفلسطيني قبل النكبة وبعدها، وما كتبته ليليان بشارة عن الذاكرة الجماعية الفلسطينية من خلال الرواية العربية الفلسطينية. ولا يمكن بأي حال تجاوز موسوعة الأدب الفلسطيني في جزأي الشعر والنثر للدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي، التي توقفت في الجزء الثاني منها الخاص بالنثر عند نماذج لنحو ثلاثين قاصاً وروائياً بدأت مع صالح أبو أصبع ومروراً بمحمود الإيراني وسميرة عزام وزكي العيلة وليس انتهاء بإميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني وإبراهيم نصر الله.

وماذا عن الشتات الجديد؟

ربما كان السفر الاضطراري لعشرات آلاف الفلسطينيين إلى أوروبا خلال العقود الماضية أمراً لافتاً، لكنه لم يحظ حتى الآن باهتمام الأدباء، وخاصة كتّاب القصة والرواية لأسباب عديدة.

وربما تكررت قصص ما حدث في خمسينيات القرن الماضي وستينياته في هجرة الفلسطيني إلى منطقة الخليج من معاناة في الوصول، غير أنَّ الفلسطيني اليوم يمكنه أن يسطّر فصولاً أكثر تراجيدية من ضحايا الخزان في رواية غسان كنفاني.

وليس بعيداً عنا ما حدث للعشرات من فلسطينيي العراق في أنحاء المعمورة، فمتى يبدأ الأديب صياغة فصل جديد من فصول الشتات القسري؟ ومتى يمكنه أن يستفز الحمية لتكون قصصه ورواياته نصوصاً تأخذ طريقها إلى الشاشة، لتسلط الضوء من جديد على معاناة الوطن الذي يهاجر كل يوم رغماً عنه في مركب أحد أبنائه على أمواج الحكايات الكئيبة؟!♦