مجلة العودة

الشعراء العربرديف الجماهير في إسقاط اتفاق أوسلو

الشعراء العرب
رديف الجماهير في إسقاط اتفاق أوسلو


بقلم د. محمد توكلنا


من الأساليب الخسيسة للمحتلين أن يتخذوا لهم عملاء من ضعاف النفوس يدسّونهم بين أفراد الجماهير التي يحتلون بلدهم، ويمهدون لهؤلاء العملاء أساليب الوصول إلى السلطة ليكونوا لهم أعواناً في تكريس الاحتلال ومساعدته على تحقيق مآربه من طريق معاهدات أو اتفاقات تحمل في ظاهرها طابع السلام والرحمة وتبطن في داخلها القهر والاغتصاب، وعلى هذه الشاكلة ما كان بين الصهاينة ومنظمة التحرير الفلسطيني في ما سُمي "اتفاق أوسلو".
وحين أُقر ذلك الاتفاق، هبّ المجتمع العربي والفلسطيني بكل شرائحه وأطيافه للتنديد بهذا الاتفاق الظالم وتوعية الغافلين على أضراره وخطورته. ومن أوائل الذين تصدوا لهذا الاتفاق الشعراءُ العرب من فلسطينيين وغيرهم، فراحوا يفنّدون مثالب هذا الاتفاق وأضراره على القضية الفلسطينية وعلى اللاجئين وعلى العرب جميعاً، وكل من وجهة نظره؛ فالشاعر نزار قباني يصور حال الأمة قبل اتفاق أوسلو حين كان الإباء والعنفوان هما السمة السائدة في أبناء القوم والحال المعتادة في كل ساحة وشارع (الرجز والرمل):  
بالأمس
كان الشارعُ القوميُّ في بلادنا
يصهلُ كالحصانْ...
وكانتِ الساحاتُ أنهاراً تفيضُ عنفوانْ...
أما بعد أوسلو، فقد انقلبت الأمور وتغيرت الأحوال؛ فالضعف والهوان هما اللذان سيطرا على الشعب، وأوهن الاتفاق قواه حتى أعمى عينيه وأخرس لسانه وأسقط أسنانه:
... وبعدَ أوسلو
لم يعُدْ في فمِنا أسنانْ...
فهل تحوَّلنا إلى شعبٍ من العُميان والخُرسانْ؟؟
ويصور قباني الخدعة التي تعرض لها الشعب من خلال هذا الاتفاق؛ فقد كان نصيب الفلسطينيين أصحاب الأرض جزءاً بالغ الصغر من أرض فلسطين، وضيع اتفاق أوسلو خمسين عاماً من النضال في سبيل تحرير الأرض والعودة إليها، فلم يكن إلاّ اتفاق إذعان وخضوع:
بعد هذا الغَزَلِ السِريِّ في أوسلُو
خرجنا عاقرينْ..
وهبُونا وَطناً أصغر من حبَّةِ قمحٍ..
وطَناً نبلعه من غير ماءٍ
كحبوب الأسبرينْ!!..
*  *  *
بعدَ خمسينَ سنةْ
ما وجدْنا وطناً نسكُنُه إلا السرابْ..
ليس صُلحاً، ذلكَ الصلحُ الذي أُدخِلَ كالخنجر فينا..
إنه فِعلُ اغتصابْ!!..
ثم يتوعد الشاعر أولئك المهرولين نحو الاتفاق، المتهالكين لإرضاء عدوهم على حساب شعبهم، يتوعدهم بأن هذه الهرولة ليست إلاّ هباءً منثوراً؛ فالشعب لا يزال حيّاً متأهباً لمقارعة مغتصبي أرضه وعرضه، ولذلك سيسقط هذا الاتفاق ولن تكون له أية قيمة: 
ما تُفيدُ الهرولَةْ؟
ما تُفيدُ الهَرولة؟
عندما يبقى ضميرُ الشَعبِ حيَّاً
كفَتيلِ القنبلة..
لن تساوي كل توقيعاتِ أوسْلُو..
خَردلَة!!..
وبأسلوب مشابه يستعرض الشاعر معز عمر بخيت عزة الأمة قبل الاتفاق وبعده، فقد راح يروي القصة عن أمته حين سادت العالم، وحملت إلى الناس العزة والحرية، ونشرت العلوم في كل مكان وأقامت شرع الله، وكانت أقدام جنود الحق تغير خريطة الأرض، من الفسطاط إلى كابول (المتدارك):
وقف الراوي
ثم تحدثَ باستنكارْ:
بدءاً
كان العربُ السادةَ يوماً
كانوا القادةَ والاحرارْ
صنعوا العزةَ
و الحريةَ
رمزاً يسْمُقُ للثوارْ
ملكوا العلمَ وقتلوا الظلمَ
وجعلوا اللهَ الحقَّ شعارْ
كانوا النّورَ وكانوا النارْ
.............
كنّا جنْداً حين تسيرُ
تفورُ الأرضُ
تضِلُّ، تتوهُ خطوطُ الطّولِ
يئنُّ الليلُ إذا ما هبّتْ في الصحراءِ
رياحُ الحق
من الفسطاط إلى كابول
أما الآن، فقد دخل المفاوضون مرحلة جديدة بعد أوسلو، هي محادثات طابا التي ما هي إلاّ مسرحية تمثل على الشعوب، لتكون ممرّاً لتحكيم أعدائنا برقابنا، وليكون التحاور محصوراً في حيز السلام، فقد أصبح الجهاد اليوم تهوّراً:
ونحن الآن بمسرحِ طابا
سوف نفاوضُ إسرائيلْ
نرشُّ الرملَ بماءِ الورد
وسوف نُقيمُ بِلاجَ العودةِ
عندَ الساحلِ وقتَ المدّ
وسوف نحكّم أهلَ جِنيفَ
كبار القومْ
سوفُ نحاوِرُ سِلماً سِلماً
لن نَتَهَوَّرَ بعدَ اليومْ
إن الذين يدّعون أنهم نبض الأمة هم الذين باعوا أرضها وفرّطوا بعرضها، فما هي المرحلة القادمة يا ترى؟ لم يبق لهؤلاء إلاّ أن يبيعوا الكعبة الشريفة:
نبضُ العُرْبِ المُتخَمِ أربى
باعَ الأرضَ و باعَ العِرضَ
فهلْ سيبيعُ الآنَ الكعبه..
هل سيبيع الآن الكعبه؟!
عجبي يكبر كل مساءْ
وآخر قولي
عجبٌ عجباً
عجبٌ عجباً
وفي الثامن والعشرين من شهر كانون الثاني/ يناير من عام ألفين واثنين، تخرج المناضلة وفاء إدريس إلى القدس وهي ترتدي حزاماً ناسفاً، وهناك تحول نفسها إلى كتلة من اللهب والغضب، وتلقن المغتصبين درساً لا ينسى؛ فيهبّ الشاعر عبد الله السفياني ليبكّت على لسان المناضلة وفاء المتخاذلين الذين سعوا إلى أوسلو وإلى طابا و(قبر السلام)، فهي تعتقد أن السلام لا يمكن أن يتحقق إلا ببذل الدماء التي منها دم المناضلة، وأنه لا يمكن أن يبدد الخوف إلاّ التضحية بالأرواح. إنه الدرس الذي لم يفهمه المتهالكون المسارعون نحو السلام المزعوم (المتقارب):
تقول وفاء:
خذوا من بقايا دمائي وَقوداً
يضيء لكم سراديبَ "أوسلو"
وأنفاقَ "طابا"
وقبرَ "السلامِ"
اصنعوا من ضفائر شعري حبالاً..
تقيّد "أسطورة الخوفِ"...
ثم ضعوها على المشنقة..!!
وحين تموت سينبع نهر الحياةِ..
وتبعث فيكم وفاء
ويصرخ الشاعر فاروق جويدة في وجه المفاوضين الذين ضيعوا فلسطين بلادَ الأنبياء بين أوسلو وبين ولائمهم واحتفالاتهم ولهوهم وطربهم، فإذا بفلسطين تقضي نحبها على يدهم (الكامل):
ماذا تبقّى من بلادِ الأنبياءْ؟
ما بين أوسلو
والولائمِ.. والموائد والتهاني.. والغناء
ماتت فلسطينُ الحزينةُ
فاجمعوا الأبناءَ حولَ رفاتِها
وابكوا كما تبكي النساءْ
ويتحسر الشاعر على فلسطين المضيَّعة، وهو ينظر إلى الدجالين الذين يتممون عمليات التطبيع مع العدو الصهيوني، يفعلون ذلك جهراً بكل وقاحة وجرأة:
ماذا تبقّى من بلادِ الأنبياء؟
في حانةِ التّطبيعِ
يَسكرُ ألفُ دجّالِ وبينَ كؤوسهم
تنهارُ أوطانٌ.. ويسقطُ كِبرياء
لم يتركوا السمسارَ يعبثُ في الخفاء
حملوهُ بين الناسِ
في الباراتِ.. في الطرقاتِ.. في الشّاشاتِ
في الأوكارِ.. في دُوْرِ العبادةِ
في قبورِ الأولياء
أما الشاعر يحيى السماوي فيقتبس من قول الله تعالى: "وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ" ليعبّر عن هموم الأمة ومعاناتها؛ فقد أسكرتها الهموم حتى اضطربت حياة الناس، وأضناها السهد والآلام، واستحكمت الشكوك في القلوب، وجرت الأمة وراء أعدائها تطلب منها الأمان والحلول لمشاكلها (الكامل):      
بهمومِنا لا بالخمورِ سُكارى
وليأسِنا لا للعُداةِ أُسارى
نمتارُ سُهداً حين يَقربُنا الدُّجى
ونفرُّ من ضوءِ الشموسِ نهارا
ونقيم بين قلوبِنا ويقينِنا
للشكِ سدّاً مانِعاً وجداراً!
نعدو وراءَ السّافحينَ دِماءَنا
أنْ يمنَحوا بستانَنا أمطارا
ويلجأ الشاعر إلى عقد مقارنة بين ماضي الأمة وحاضرها بهدف بيان السبب في انحدارها؛ فقد أعرضت الأمة عن نهج نبيها الذي رفع شعار الجهاد، ونسيت مآثر الخلفاء الراشدين العظام الذين نشروا العدل وقوّضوا ملك الظالمين:
فكأننا لسنا عشيرَ المصطفى
هذا الذي رفعَ الجهادَ شِعارا
وكأنما «الصِّديقُ» لم يغرِسْ لنا
شجراً أفاءَ بظِلِّهِ الأمصارا
وكأنما «الفاروقُ» ما صلّى بنا
في «القدسِ» لمّا فرّق الأشرارا
وكأنما «عثمانُ» لم يُسرِج لنا
من مُقلتيهِ على دُجىً أنوارا
وكأنّ «خَيبرَ» لم يقوِّضْ بابَها
يوماً «عليٌّ» حين كرّ وثارا
ويأسف الشاعر حين يرى رعاع الناس وسفلتهم هم الذين تولوا أمور الشعب وراحوا يمدون أيديهم لأعداء شعبهم وغاصبي أراضيهم، فقلبوا المفاهيم حتى جعلوا الجبن بطولة والعار مجداً والمجد عاراً، كل ذلك كرّس في الأمة عقيدة الخوف من الموت الذي أنساهم شرف الشهادة وعزّتها:
زمنٌ! ينيب به الكبار صغارا
كي يرجعوا شرفاً لنا وذِمارا!
زمن! يصيرُ الجبنُ فيه بطولةً
والعارُ مجداً والكرامةُ عارا!
زمنٌ تبيعُ به السياسةُ أمّةً
والقيدُ يصبحُ في الخنوعِ سِوارا
نخشى من الموتِ الجميلِ شهادةً
ونكادُ نَحسَبُ شوكَ ذلٍّ غارا!
ويعجب كيف ضاعت كل جهود الأبطال الذين بذلوا أرواحهم للدفاع عن الأرض وتضحياتهم حين أقام قائدهم حواراً مع الأعداء:
فعلامَ هاتيكَ الجموعُ استُشهدتْ
إن كان قائدُها أقامَ حِوارا؟
ويلتفت الشاعر إلى القدس ليواسيها ويعزّيها في مصابها، وليصرّح لها بأنّ الجهاد لم يخنها ولم يتخلّ عنها المخلصون، وأنّ المصيبة أتتها من السماسرة الذين باعوها لعدوّهم في الخفاء وبثمن زهيد من أجل الحفاظ على مناصبهم ومكاسبهم:
يا قدسُ قد رخُصَ النضالُ وأرخصتْ
شهبُ المَناصبِ باسمكِ الأسعارا!
يا قدس قد باعوك سرّاً فاسألي
«طابا» عساها تكشف الأسرارا!
يا قدس ما خان الجهادُ.. وإنما
خانَ الذي باسمِ الجهاد تبارى!
وقد نرى أن هذه الهبّة القوية من الشعراء ضدّ من أسلموا قيادهم لأعدائهم وتاجروا بأرض الأمة وشرفها، تدل على أن النار ما زالت متأججة تحت الرماد، وأنّ هذه الأمة سوف تنهض من جديد لتسقط أوسلو وكل ما تبعها من بلايا ورزايا وقعت على الأرض والأمة.