مجلة العودة

المشهد الثقافي الفلسطيني في لبنان عبد العال: هناك تراجع لـ "الهوية الثقافية"

المشهد الثقافي الفلسطيني في لبنان

عبد العال: هناك تراجع لـ "الهوية الثقافية"

علي: لا يخلو المشهد من نماذج مشرقة لكنها فردية

أحمد الحاج / بيروت

في رواية "سقوط غرناطة"، للكاتب أمين معلوف، يقف أبو عمرو خلال زمن الحصار الطويل، يحاجج في الهزيمة، فيقول إننا منذ مئة عام لم نؤلف كتاباً يُقرأ، بل إننا ما زلنا ننسخ الكتب التي كُتبت قبل ذلك. هذه الحال أكثر ما تنطبق على فلسطينيي لبنان، ووصف للمشهد الثقافي الذي يعتريهم. فمنذ عقود، وخاصة تلك التي تلت الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، أصاب نضوب أشعارهم وكتاباتهم ورواياتهم، وكل نتاجهم الثقافي. أُقفلت مؤسساتهم الثقافية، هاجر مثقفوهم بسبب الملاحقات. حصار فُرض على مخيماتهم، فلا يقرأ كتاباً من لا يجد رغيف الخبـز.تراجعت نسبة التعليم لديهم بنحو مأساوي، وبعد أن كانوا جزءاً أساسياً من الكادر الأكاديمي في الجامعات الأرقى في لبنان، أصبحوا لا يشكلون، ولو نسبة بسيطة من ذاك الكادر. كاتب هذه السطور استطاع إحصاء أسماء أكثر من 45 أستاذاً جامعياً من مخيم برج البراجنة، في الضاحية الجنوبية لبيروت، وهو مخيم صغير. لكن الخبر السيئ أن هؤلاء جميعاً تبوّأوا مناصبهم قبل عام 1982، أي يوم لم يكن يتجاوز عدد سكان المخيمات عشرة آلاف نسمة. الكوادر العلمية والثقافية قصدت فـي لجوئها الثاني والنهائي بلداناً عديدة، أبرزها الولايات المتحـدة وكندا.

التطورات السياسية التي أعقبت الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 تركت آثارها المباشرة على المشهد الثقافي، وأبرز هذه التطورات هو حصار المخيمات لأكثر من عامين، وهو ما سبب تعثر التطور الثقافي الفلسطيني، وأصاب ميادين الثقافة بجروح بالغة لم تشف منها حتى اليوم. وبعيداً من الأسباب الأمنية التي سببت هذا التراجع، هناك سبب رئيسي، هو أن دور المثقفين تراجع لدى أكثرية فصائل الثورة الفلسطينية، وخصوصاً ممن كان لديها تأثير كبير في مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، أي منظمة التحرير الفلسطينية. وبدأ هذا التحول خصوصاً مع استبعاد المثقف أحمد الشقيري عن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ومعروف أن في عهد الشقيري تأسّس العديد من مؤسسات المنظمة الثقافية، وعلى رأسها مركز الأبحاث الفلسطيني.

التغيرات في قيادة المنظمة قادت في المخيمات الفلسطينية في لبنان إلى استبعاد المثقفين عموماً عن قيادة الفصائل (وهناك بحث موثق أجراه كاتب هذه السطور في الموضوع) ونشوء قادة جدد يزدرون الثقافة، ويختلقون تناقضاً مصطنعاً بين القلم والبندقية. كل ذلك أدى إلى تهميش المثقفين في الفصائل الفلسطينية، وفي المجتمع الفلسطيني في لبنان الذي أصبح فيه القول الفصل لحملة البندقية الجدد. وأصبحت الثقافة في ما بعد خاضعة لمزاجية السياسي، ومكانة المثقف تحددها تبعيته لهذا السياسي!

مجلة "العودة"، في سبيل تقويم المشهد الثقافي الفلسطيني في لبنان، التقت كلاً من الروائي الفلسطيني مروان عبد العال، والكاتب والشاعر الفلسطيني ياسر علي.

عبد العال: حضرة الفراغ

يقول الروائي مروان عبد العال إنه "لا يمكن النظر إلى الحضور الثقافي الفلسطيني أو الذي هو أقل مما يسمى حركة ثقافية فلسطينية في لبنان بمعزل عن ملامح كامل المشهد الفلسطيني الثقافي والسياسي والخاص والعام أيضاً. فكم أقرب تسمية هذا الحال الراهن بحضرة الفراغ أو فخامة الغياب".

ويرى أن "الفعل الثقافي كان سبّاقاً على الفعل الكفاحي المقاوم، بل أسس له، ولأن مشهد الثقافة الفلسطينية في لبنان الذي وصل إلى ذروة الإبداع في لحظة تاريخية ارتبطت بصعود حركة التحرر الفلسطينية ومكانة القضية الفلسطينية، وفخامتها اقترنت بالأسماء التي أتحفتها بالحضور عوضاً عن تحدي المنفى وما له وما عليه".

يضيف: "ثقافة منفى وليس ثقافة منفية، أي أن تكتب من المنفى وعينك على وطن، ينتجها وعي جماعي شكل حاضنة وبيئة إيجابية للذاكرة والهوية والحلم "أكتب كل شيء لأعثر على جذوري ثانية"، كما كتبت الروائية إزبيل الليندي. إذاً هو تحدي المنفى الذي جعل الإنسان الفلسطيني يعي معنى الثقافة أمام تحدي الهوية الوطنية، فكان منتجاً ومبدعاً ويدرك معنى الوطن، فعرف قيمة فقدانه أيضاً. وبهذا المعنى تحولت الثقافة إلى وسيلة للانتصار على المنفى".

ويقول عبد العال: "إن خصوصية الواقع الفلسطيني في لبنان، المجتمع الأكثر تكثيفاً لمفهوم المنفى القسري، الذي صاغته المعاناة، واختمرت فيه التجربة، فصار الواقع نفسه، صورة عن نزف مستمر وعملية تآكل وتعب ـ نتيجة فعل ديناميات وتحديات خطرة".

ويتساءل: "كيف للثقافة أن تنافس السياسة السلطوية الرسمية في نظرة تمييزية "عنصرية"!!! وتنحدر إلى درجة معاداة كرامة الإنسان ووجود مجتمع فلسطيني، لنكتشف في كل مرة أن المشكلة في السياسة التي تشكل قاطرة لكل ما يتبعها، بدل أن تكون الثقافة هي الرؤية الأبعد والأعمق بانحيازها إلى العدل.

ويتحدث عن "نشوء "ثقافة الغيتو" التي تولد من مستجيبة للعزل الخارجي من تقاطع موضوعي مع ذهنية فعل داخلية متعلقة بالتجربة التاريخية الفلسطينية وأخطائها في لبنان، وعلاقتها الجديّة بواقعها المجتمعي، اتساع الفجوة القائمة بين القوى السياسية الفلسطينية والبنية الثقافية الفلسطينية عموماً، حيث ينفصل المثقف تلقائياً عن ما يسميه "الوحل السياسي" أو "القرف السياسي" ويترك الساحة لمن يملأ الفراغ، معفياً نفسه من واجب التغيير ومسؤوليته، بالتنظير الإلكتروني والفضائي والطهرانية البعيدة عن الواقع الفعلي للتغيير، بحيث تتجوف المؤسسة السياسية وتتلاشى القيمة الثقافية".

ويشرح "نشوء ثقافة ذيلية، مثقف السلطة وصدى السياسي وأحياناً بوقه المسموع أو المقروء أو المرئي، أو جزء من جهاز مفاهيمي له وظيفة تفريغ الثقافة من محتواها الوطني لتحويل الثقافة إلى سلعة، ووسيلة ارتزاق لمؤسسات ممولة دولياً، تخرج الهوية من محتواها الوطني والسياسي إلى سياق اندماجي، أو تعصبي كلاهما يتنافس على تغيير القيم بتشكيل جديد لشخصية الفلسطيني، ليس بناءً على هوية وطنية، بل وفق تضاريس جزئية يكون المخيم فيها المختبر للدراسات والبحث ومحاولة خلق مثقفي وإنتلجنسيا العولمة، وفق رؤية النيو/ثقافية تحت مسميات المدنية والتحديث".

يضيف عبد العال: "الثقافة آخر القلاع التي تسقط كما يقال، لا تقارن حتى في الغياب الكبير للإطار المرجعي، يبدأ في تحويل بيئتها الحاضنة بيئة نابذة، وحين تتحول فيه الثقافة إلى ترف، تكون البيئة السياسية السائبة التي تولّد الاخطاء بلا موانع وبلا رادع، نتاج الغياب هو الفراغ، افتقاد الأمان والثقة حتى في ظل النسيج الاجتماعي، غياب الحركة الثقافية وتراجعها هزا بقوة صيغة "الكومونة الاجتماعية " الإيجابية التي كرّست التعاضد الاجتماعي، ووفرتها القاعدة الاجتماعية للتجربة الثقافية والسياسية والنضالية الفلسطينية، وهذا يدفع نحو نزوح صامت ونخبوي أحياناً من داخله إلى المدن الرئيسية، وترحل معها أيضاً الأنشطة الثقافية وتلحق بها المهرجانات السياسية، لتصبح الثقافة الأرقى في الفنادق الأرقى، أو كما صار هناك ما يسمى حزام المخيمات أو البقع المجاورة والمنطقة المحاذية، صارت الثقافة حزاماً تمارس خارج مادتها ومحاذية لغايتها".

ويختم الروائي الفلسطيني بالقول: "الحقيقة أننا أمام تراجع في "الهوية الثقافية"، معيار القياس يكون ويتحدد من خلال (الفعل الثقافي) للمثقف؛ لأنه يمتلك الوعي والإرادة. ونضيف هنا بعداً آخر هو (الإبداع)، فالهوية الثقافية تخرج من الإطار التجريدي إلى الوجود الملموس وتتجسد في (القصيدة ـــ القصة ـــ الرواية ـــ المسرحية ــ في الأغنية والتراث والفن والإعلام والفن التشكيلي... إلخ). ومن هنا يجب أن ندرك أهمية دور المثقف في صناعة الهوية الثقافية للمجتمع".

علي: النرجسية الثقافية تحكم البعض

يميّز الكاتب والشاعر ياسر علي بين المشهد الثقافي الفلسطيني في لبنان عن غيره من المشاهد؛ "فالمشهد السياسي متوحد تحت عنوانين (فصائل التحالف ومنظمة التحرير) ويجري العمل على تشكيل مرجعية موحدة لهما. والمشهد الاجتماعي يتمثل بمؤسسات واتحادات، وهكذا. أما المشهد الثقافي الفلسطيني في لبنان، فلا يعدو كونه تابعاً للسياسي أو المالي، وتفتك به الشرذمة والاستئثار. ولا يخفى على أحد تلك النرجسية الثقافية التي تحكم بعض المثقفين الفلسطينيين، فينظر بعضهم إلى غيرهم بفوقية، ويرفض بعضهم الانضواء تحت اتحاد أو رابطة أو جمعية إذا لم تكن مدعومة من هيئات عليا".

يضيف أن "تجربة الاتحاد العام للكتّاب والصحافيين الفلسطينيين، بشقّيها، كانت محكومة بالمحاصصة، لا بالكفاءة، فكان كل فصيل يرشح عدداً من كتّابه، حتى وصل الأمر إلى تدخّل هذه الفصائل في الأمور المفصلية. بل كانوا يتدخلون طالبين إصدار بيان هنا أو موقف هناك أو فعالية هنالك. إلا أن المشهد الثقافي لا يخلو من نماذج مشرقة في هذا البلد، إلا أنها فردية، وغير مدعومة من جهات سياسية. فتجربة المتحف الفلسطيني في منطقة صور، التي يشرف عليها محمود دكور، وتجربة مشروع موسوعة اللوباني لحضارة فلسطين، التي ألّفها، وما زال، حسين اللوباني الداموني، وتجربة أدباء وشعراء مخيم نهر البارد، قبل نكبته وبعدها، تشكل إضاءات صغيرة، سيحوّلها الدعمُ بلا شك إلى منارات مضيئة".

ويتابع علي حديثه عن الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الفلسطينيين بالقول: "نحن اليوم أمام فرصة نادرة لإعادة هذا الاتحاد إلى الوجود ونفخ الروح فيه. فهو في موت سريري منذ أكثر من عشرة أعوام، ويحتاج إلى البدء من جديد بإجراءات إحيائه من جديد، بدءاً من التنسيب والانتخابات وتقسيم اللجان (بعيداً عن التدخلات السياسية لهذا الفريق أو ذاك)، فالاتحاد بنسخته الثانية (1998-2002) كان يضم (39) عضواً. مات نصفهم تقريباً".

يضيف: "اليوم، في ظل صدور عدد من الصحف والمطبوعات الفلسطينية في لبنان، وبروز مرتكز الدراسات الفلسطينية، وتأسيس عدد من دور النشر، وتمركز مكاتب الفضائيات الفلسطينية في بيروت، وإنشاء عدد كبير من مواقع الإنترنت الفلسطينية في لبنان، برز العديد من الكتّاب والشعراء والصحافيين، وبات عدد الذين تتحقق فيهم شروط الانتساب يفوق المئتين، وبالتالي فإن إنشاء اتحاد فاعل ودسم وحيوي يتميز بهذا الكمّ من الشباب الصاعدين إعلامياً، سيكون فرصة جديدة لإحياء المشهد الثقافي الفلسطيني".

ويختم الكاتب والشاعر الفلسطيني ياسر علي حديثه بالدعوة "من خلال صفحات مجلة "العودة" إلى العمل الجدي لإعادة تأسيس الاتحاد على أسس متينة ومعالم واضحة".♦