مجلة العودة

ثقافة العودة: الركوعي وعوكل رسما فجر الحرية في ظلمة المعتقلات

الركوعي وعوكل رسما فجر الحرية في ظلمة المعتقلات
 
  
وسام حسن/ دمشق

عبر ستة عقود من الاحتلال الصهيوني لفلسطين، اعتقل العدو عشرات الآلاف من أبناء شعبنا الفلسطيني من مختلف الشرائح العمرية، وقد اعتمد الكيان الصهيوني على سياستين اعتمدهما ليطيل احتلاله، هما سياسة القتل والاعتقال. غير أن الصمود الفلسطيني أثبت للمحتل أن هذه السياسة لم ولن تنجح في تذويب صموه وانتزاع أمله في أرضه ووطنه.

الفن التشكيلي في المعتقلات كان - ولا يزال - أحد أسس المشهد الثقافي الفلسطيني الوطني. «العودة» الفنانَين التشكيليين محمد الركوعي وعماد عوكل، اللذين أسهما في الحركة الفنية الفلسطينية في المعتقلات. سألناهما عن هذا الفن وأنصتنا إلى معاناتهما وإبداعهما ومحاولات الصهاينة المتواصلة لتدمير هذه الروح الفلسطينية المبدعة.

الفنان محمد الركوعي تحدث عن نشوء هذا الفن بقوله: في فترة الثمانينيات شمل الاعتقال شرائح اجتماعية وعلمية غير التي كانت في السابق، فقد كان معظم المعتقلين في الثمانينيات إما مقاومين دون تحصيل علمي، وإما من الفلاحين والعمال. إلا أن العدو الصهيوني أخذ في اعتقال الجامعيين والفنانين والمبدعين والمثقفين لأنهم المحرض الفعلي للثورات، فنشطت الحركة الفنية في السجون، لأن من بين الأسرى عدداً لا بأس به من الفنانين، ولأن معظمهم حوكموا بمؤبدات فقد شق فن السجون طريقه بقوة لأن الرسم كان يعبر عن الأمل والمقاومة والحرية. أما من حوكموا بفترات قصيرة، فلم نر لهم لوحات كثيرة من وحي المعتقلات.

إن كثرة التنقلات كانت تؤذي الحركة الفنية، لأن الفنان في أي معتقل كان يقبع فيه، بحاجة إلى فترة تجهيز طويلة حتى ينطلق بأعماله، وأول هذه التجهيزات البحث عن مخابئ لا تقع عليها أعين السجانين، فكنا نبحث عن مخابئ نضع فيها ألواننا وأقلامنا وقطع القماش. فالفن بحاجة إلى هدوء وخطة حتى يؤتى أكله، وبالنسبة إليّ وضعت خطة كبيرة حتى رسمت، ووضعت خطة أخرى حتى أخرجت عدداً من أعمالي خارج السجن، وكنت أول فنان معتقل يُخرج أعماله خارج المعتقل وأقيمت لي عدة مَعارض وكنت لا أزال معتقلاً.

لقد كان هذا الفن مدرسة خرّجت الكثير من الأجيال وتميزت بمميزات اختلفت عمّا سواها من المدارس الوطنية. وهذه المدرسة أثبتت وجودها بوجود معظم أعمالي وأعمال غيري من الفنانين المعتقلين في كثير من البيوت الفلسطينية، وطبعت في أذهان الشعب الفلسطيني رسوماتنا وأعمالنا لما لها من تأثير وقوة على التعبير. واليوم صار يدرّس في الجامعات والكليات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة الأستاذ محمد الظابوس، وهو مدرس في جامعة الأقصى طلب مني زيارة للطلاب لأنهم يدرسون عن فن المعتقلات وعن لوحاتي الموجودة في مقرراتهم، وهذا رد على الذين يقولون إن هذا الفن ليس مدرسة مستقلة بنفسها. وصار بإمكانك معرفة اللوحات التي رسمت في المعتقل، سواء من حيث الألوان المستخدمة أو من خلال عناصر الموضوع، فالشمس والزنزانة والطير وأي رمز من رموز الحرية ستجده في اللوحات التي رسمت في المعتقلات.

صعوبات تواجه الفنان في السجون

إن أهم الصعوبات التي تواجه الفنان هو السجان والحصار الذي تمارسه إدارة السجون على إبداعه من مصادرة للوحات والأدوات التي يستعين بها، وقد صودرت لي عدة لوحات، وأتمنى يوماً ما أن تحرر الأرض وأستعيدها جميعها. لوحاتي التي صودرت موجودة الآن في مديرية السجون الصهيونية، ومن جماليتها جمعوها في ألبوم، وكل ما أتى مدير سجن جديد أو ضباط أمن جدد يطلعونهم عليها ليقولوا لهم إن من بين السجناء مبدعين وفنانين.

ومن أهم الصعوبات التي كانت تواجهنا صعوبة الحصول على الألوان، فقد كنا نرسم بأقلام الحبر الناشف، وفقط بأربعة ألوان: الأحمر والأسود والأزرق والأخضر. وكنا نستغل فترة الامتحانات حيث كنا ندخّل بعض الألوان مع المدرسين. وأيضاً كنا نحصل على بقايا الأوان الشمعية من عمال البناء، حيث كانوا يعلّمون مخططاتهم على الجدران ويرمون البقايا.

كنت أُهرِّب اللوحات خارج السجن وفق خطة أضعها مسبقاً، فقد كنت أرغب في أن أكن أول شخص يُزار في السجن وكان الأهل يأتونني باكراً ووقتها تكون أعداد الشرطة أقل من المعتاد في فترة الظهيرة وفي ثانيتين من أول اللقاء أكون قد أعطيتهم لوحتين أو ثلاثاً، وبدورهم ينقلونها للخارج. وهناك عدد من الجهات كانت تهرَّب اللوحات وكنت أعتبرها اختراقاً جيداً في السجن، فقد كان هناك أفراد من الشرطة من أصل عربي نهرّب اللوحات عبرهم وهكذا.

وقد بلغ عدد اللوحات التي رسمتها في السجن نحو 400 لوحة، كثير منها ضائع وفي كل مقابلة تلفزيونية أنادي بإعطائي هذه اللوحات حتى تخدم القضية الفلسطينية وتعرض للجمهور الفلسطيني في معارض متنقلة أو متاحف.

أجمل اللوحات التي رسمتها في السجن من وجهة نظري هي لوحة السجين الذي خطَّ على جسده القدس ولوحة الطائر الذي يكسر قضبان الزنزانة وقد رُسم على جناحيه علم فلسطين.

الفنان عماد عوكل

أما الفنان عماد عوكل فيقول عن تجربته: لقد عشقت الفن منذ صغري، وفي المرحلة الابتدائية كان مدرسنا لمادة الفنية الشهيد الراحل غسان كنفاني، وكنا وقتئذ في معهد فلسطين الذي كانت تُشرف عليه وكالة الغوث للاجئين الفلسطينيين، وقد أُعجب غسان برسوماتي ولوحاتي، وعند إقامة المعرض السنوي فزت بالمركز الأول. وبعد المرحة الثانوية دخلت معهد الفنون الجميلة وبدأت موهبتي تصقل على يد عدد من المدرسين.

أما مرحلة الاعتقال التي دامت أكثر من اثنتي عشرة سنة، فقد رسمت فيها عدداً من اللوحات عبّرت عن شغفي بالوطن وبالثورة تحديداً وكانت رسوماتي على القماش وعلى المناديل الورقية، وفي الأعياد كان يطلب زملاؤنا أن نرسم لهم بطاقات معايدة مستقلة، أو الرسم على الرسائل بألوان أقلام الحبر الناشف. وكانت والدة صديقي المعتقل أحمد مخيمر تزورني وتجلب لي معها المناديل الورقية في كل زيارة، كي أتمكن من الرسم وإرسال لوحاتي إلى خارج المعتقل، وقد أقام لي معرضاً من هذه اللوحات في الضفة الغربية وفي القدس تحديداً بعد خروجي.

ويضيف عوكل قائلاً: إن فن المعتقلات يعبّر عن قضيتين أساسيتين: قضية الالتصاق بالوطن والثورة وأفق التحرير، وقضية ما يدور في مكنونات السجين. وكنت أحاول أن أترجم على الورق ما يدور في داخلي، وخصوصاً التصاقي بالوطن وهمي الوطني. ونلاحظ أن الألوان التي استخدمت في لوحات السجون هي ألوان زاهية، وبالتالي فهي تعبّر عن الأمل بالتحرير والحرية.

إن أكثر ما كان يحتاجه الفنان في السجن هو الألوان، وقد استعضنا عن الألوان الخشبية والبلاستيكية والمائية بألوان أقلام الحبر، وقد تعلمنا في السجن كيف نستخدم هذه الأوان على نحو فني، وبالتالي فعندما ترى لوحة بالحبر الأسود الجاف تظنها للوهلة الأولى مرسومة بالفحم، وذلك بسبب الدقة التي رسمت فيها اللوحة.

إن أكثر ما كان يقهر الفنان ويغيظه في السجن أمران: الأول منعه من إخراج لوحاته من السجن، والثاني مصادرة الأدوات التي كان يرسم بها. فقد كانوا يصادرون كل الأدوات ويبقون عدداً من الأقلام وبعض المناديل الورقية، وعندما كانوا يصادرون المناديل الورقية نرسم على قماش الوسائد، فكنا نقطعها ونحولها إلى قصاصات صغيرة ونرسم عليها. وبالرغم من كل هذه المعاناة لم نجد بعد خروجنا من السجن أي اهتمام بهذه اللوحات.

ونلاحظ أن هذا الفن خبت جذوته بعد خروجنا من السجن، لأن السجن مثل المدرسة، يومياً يخرج منه ويدخله كثيرون. ولأننا قضينا مدداً طويلة، فقد استطعنا أن نكوّن حالة فريدة من نوعها. وعندما التقيت مع الفنان محمد الركوعي والفنان زهدي العدوي في سجن عسقلان استمرت الحركة الفنية وصار لها اسم كبير في المدارس الفنية العربية والفلسطينية.

إن فن السجون هو جزء لا يتجزأ من الحركة الفنية الموجودة في الداخل والشتات، وهي تتكامل معها ولا تنفصل لأن الفنان خارج السجن ارتبط أيضاً بالأرض الفلسطينية وتجسدت في لوحاته معاني الحرية والتحرير.

إن أهم رموز العودة في لوحاتي كان طائر الفينيق، هذا الطائر الذي يرفرف دوماً فوق الأرض الفلسطينية، وهذا الطائر يعبر بعمق عن الشعب الفلسطيني الذي تعرض لمجازر وتهجير. وقد رسمت عكا ورسمت أسوارها في لوحاتي في السجن. ومن أشهر لوحاتي لوحة الأم، وهي صورة امرأة يمتد شعرها على الأرض ويخرج من شعرها أشجار على شكل رجال يحملون سيوفاً.