مجلة العودة

حسن الأمراني: شاعرُ العودة لشهر ينايريستلهم التاريخ وتبشر قصائده بالانتصار

حسن الأمراني: شاعرُ العودة لشهر يناير
يستلهم التاريخ وتبشر قصائده بالانتصار


بقلم د. محمد توكلنا


إذا أردت أن تعرف حقيقة أمّة من الأمم، فلا تنظر إلى حاضرها فحسب، بل لا بدّ لك من استعراض ماضيها، فقد تكون الأمة في ظروف صعبة مؤقتة، والجواد لا بد له من كبوة، فإن كان قوياً سليماً فلا شك في أنه سينهض ليتابع المسير في ميدان السباق. وهذه النظرة إلى الماضي توخّاها الشاعر الدكتور حسن الإمراني في أمة الإسلام، فهي قد عانت ما عانت في زمن بعثة رسولها صلى الله عليه وسلم من القهر والاضطهاد، فإذا بها تبلغ الآفاق في وقت ضئيل.وقد استعرض شاعرنا صورة من هذه الصور، حين اتفق المشركون في مكة على حصار المؤمنين في شعب أبي طالب، فقاسوا من ذلك الحصار أشدّ العنت، فأكلوا الجلود وورق الشجر، ولكنهم صمدوا حتى انحسرت الغمّة وخرجوا ليتابعوا مسيرة الدعوة بإصرار أعلى وقوة أشد.

والشاعر ينظر إلى حصار الصهاينة لأهل غزّة اليوم، فيرى فيه ظلالاً للأزمة السابقة التي تغلّبت الأمة عليها، وكما تجمّع المشركون كلهم على كلمة واحدة لحصار المؤمنين، فإن الأعداء يتفقون اليوم كذلك على حصار أهل غزّة (المتدارك):

وتجمّعتِ الأحزابُ، وأُلجِئْنا في شِعْبِ أبي طالب

ها نحن تُظَلِّلُنا أفياءُ الغربةِ في أحراشِ الشِّعب

وتحاصرُنا الدّنيا، لا شرقَ يُواسي الغُرباءَ ولا غَرْبْ

ولعل شاعرنا بعد ذلك يذكّرنا بقول طرفة بن العبد (الطويل):

وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً

على المرءِ من وَقْعِ الحُسامِ المُهنّد

فالمؤسف في هذا الموقف أن الظلم الواقع على أهل غزة لم يكن من جهة الأعداء فحسب، بل شارك فيه ذوو القربى الذين أغلقوا في وجوههم الحدود ومنعوا عنهم المِيرة، فلا تصلهم حبّة قمح ولا قطرة ماء، فيعانون الجوع والعطش وقلّة الزّاد، مع أن الخير كثير فياض لدى إخوانهم في بلاد الجوار:

قد حاصرَنا قبلَ البُعَداءِ ذوو القُربى

وسيوف الإخوةِ تقتلُنا قبلَ سيوفِ الأعداء

لا معبَرَ يُفتَحُ لا ميناءْ

لا حبّةُ قمحٍ تأتينا .. لا قطرةُ ماءْ

لا النيل يُفيضُ علينا من بركات الأرضِ

ولا نهرُ الأردُنِّ يسيلْ

والزّادُ قليلْ

وعلى رغم كل هذا الشقاء الذي يقاسيه أهل غزّة بسبب حصارهم، وبرغم أنهم شعب أعزل، فإن إصرارهم يبدو جليّاً؛ إذ يقف هذا الشعب ليهدد جلاّديه بأنهم مهما عتَوا وظلموا فليس لهم إلاّ الزمن الحاضر، ولكن المستقبل سيكون بلا شكّ لهؤلاء الأبطال المحاصرين اليوم، لذلك فإن ظالمهم يعيش في كابوس مستمر بسبب توقّعه للهزيمة المرّة التي ستصيبه في يوم من الأيام:

شَعبٌ أعزَلْ

يمشي ويقولُ لقاتلهِ: لك هذا الحاضرُ

تشربُ فيه مرارةَ كابوسكَ، والغدُ لي

فأنا المستقبلْ

وترتفع نبرة التهديد في وجه الباغي، فليفعل كل ما يستطيع من قطع سبل الحياة بالسلاح، فإن أصحاب الأرض لن يرضخوا لضغوط المغتصبين:

أغلِقْ سُبُلي

بالحقدِ وبالمِدفعْ

لن أركعْ

ويذكّر الشاعر المغتصبين على لسان أصحاب الأرض بوعد رسول الله للمؤمنين بأن الحجر والشجر سينادي المسلم ليقتل هذا المغتصب الرّعديد الذي يختبئ خلفه:

سيقولُ الشجرُ الأخضَرُ والحجرُ الأحمرْ

خلفي أفعى، فاقتُلها يا عبدَ اللهِ!

وفي ذلك اليوم سيتوحّد الشعب بجميع أطيافه، صغاراً وكباراً، مسلمين ونصارى ليهبّوا في وجه المحتل ويطردوه عن الأرض التي صلّى فيها المسيح، وأُسري إليها بالرسول محمد عليهما الصلاة والسلام:

ستردد كل مدارسِنا: لا للمحتلّ

وستهتفُ كلُّ كنائسِنا: لا للمحتلّ

وستصرخُ كلُّ مساجدِنا: لا لن نرحلْ

فيسوعٌ كان يصلّي في المحرابْ

ومحمدٌ الأوّابْ

قنديلاً كان بأركان الإسراء

إن هذا الشعب لن يقاوم برجاله فحسب، ولكنه سيعلّم أجنّته في أرحام أمهاتهم مقارعة المحتلين، لتعود رايات النصر فترفرف فوق أرض غزّة هاشم، فإن فجر الانتصار قادم ما في ذلك أدنى شك:

سنعلّمُ كلَّ جنينٍ كيف يقاوِمْ

كي تُرفَعَ أعلامُ العزّةِ في غزّة هاشم

حتّى آخرِ حبَةِ زيتونٍ في وطني

ونصلّي للفجرِ القادمْ

وينظر شاعرنا إلى الشهيد فيراه سيد الفرسان، يرى نصر الله تعالى قادماً على يديه، من هناك من منفاه في مرج الزّهور أو في جنوب لبنان، والإيمان يضوع منه كما يضوع عطر الربيع، فهو قدوة الأمّة وهو نشيدها في ليل الأسى (الكامل):

يا سيّدَ الفرسانِ

يا نصراً من الرحمنِ

أنتَ نشيدُنا القدسيُّ في ليلِ الطغاةِ

وأنت قدوتُنا، وأنت ربيعُ قتلانا

ما زلتَ في مَرجِ الزهورِ

وفي الجَنوبِ ندىً

متألِّقاً عِطراً وإيمانا

إن الشهيد قد أعاد إلى الأمة عنفوانها وعلمها أن تغضب وتنتفض في وجه أعدائها بعد أن استكان من استكان من الأذلاّء، إن هؤلاء الذين باعوا شعبهم وإخوانهم للأعداء يؤوِّلون آيات القرآن تأويلاً ملتوياً، فيقرؤون قوله تعالى: "وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْم فَاجْنَحْ لَهَا" من أجل أن يسَوِّغوا تعاونهم مع الأعداء، مع أن المعتدين ما جنحوا للسلم، بل ذبحوا الشِّيب والشّبان:

علّمتَنا الغضبَ المقدَّسَ

بعدما سكنتْ رياحُ الثّأرِ في أعراقِ مَن هانا

مَنعوا عن الرُّهبانِ قُرَّتَهم

وما مَنحوا سيوفَ الهِندِ فُرسانا

والحبرُ يتلو اليومَ قرآنا

زوراً وبُهتانا

فيجيبهُ ... مَن باعَ للأعداءِ إخوانا

يتلو: "وإن جَنَحوا" وما جَنَحوا

لكنّهم ذَبَحوا

شيباً وشُبّانا

ويعود الشاعر إلى التاريخ الإسلامي فيربط بين رحلة الشهيد وهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيذكر بحادثة تظليل الغمام والحمامة التي باضت على باب الغار والعنكبوت التي نسجت على الباب ليضلل المشركين، فليس على الشهيد شيء لو أسر المغتصبون دمه، هذا لو استطاعوا فهو حيّ لن يموت:

لم يَثنِهِ دمُهُ الموَزَّعُ في الحقول

عمّا تَخُطُّ يمينُهُ قبلَ الرحيلِ إلى بساتينِ الرسولْ

لمّا تَهَجَّرَ ظلَّلَتهُ غمامةٌ

وتَبَطّنَتْ دمَهُ الشِّريدَ حمامةٌ

وحماهُ نَسجُ العنكبوتْ

هو لن يموتْ

فلتأسروا دمَهُ إنِ اسطعتُم،

وخلّوا وجهَهُ للريحِ جَلَّلَهُ القُنوتْ

ويسترجع شاعرنا وقعة فتح الأندلس حين أحرق قائد الجيش طارق بن زياد السفن لكي لا يتراجع جنوده مهما زاد القتال ضراوة، فإما النصر وإما الشهادة، واليوم كذلك سيعيد المقاومون في القدس الأيام السالفة، وسيندفعون نحو الأقصى كما اندفع طارق بعسكره نحو الأمام دون تراجع أو انحياز، حتى إذا بلغوا المسجد عانقوه عناق المشتاقين وحرروه من براثن المغتصبين مهما طال زمن الاحتلال:

ولنا

أن نحرقَ السُّفُنا

ونعانِقَ الأقصى وإن طالَ الزّمانُ بنا

وينقلنا الشاعر من قصة الشهادة إلى قصّة الأسر، فيصف عناد الأسيرة التي يبقى وجهها مزهراً رغم قساوة الجلاد، وكيف ينكسر سيف جلاّدها وينهزم أمام عزيمتها وثباتها:

وجهُ الأسيرةِ خيمةٌ في ظِلِّها كرْمُ الشهادةِ يُزهِرُ

وعلى حجارتِها سيوفُ الظّالمينَ تكَسّرُ

يتأمَّلُ الإسكندَرُ

طعمُ الهزيمةِ مُنكَرُ

إن هذا الجلاّد المدجج بالسلاح مكسور مهزوم من داخله، فليس له أن يُخضع الأسيرة على الرغم مما يحمله من الأسلحة، فالمشهد يعرض للجلاد الثبات والإصرار كأنه إصرار النملة التي تحمل الحبّة وترقى بها على الصخرة الملساء، فهي تسقط في المرة الأولى وتسقط في الثانية، فلا يفتّ ذلك عضدها، ولا يوهي من عزيمتها حتى تنجز ما تريد وتحقق النصر:

يتأمَّلُ الإسكندَرُ

في قلبِهِ هَمٌّ وفي شفتيهِ هَمْهَمَةٌ

وفوقَ ذِراعِهِ سيفٌ يصيحُ ومِغفَرُ

نَملٌ على ظَهرِ الصّفاةِ إلى الذُّرا يتَبَصَّرُ

يَسْعى، يُحاوِلُ، يُدحَرُ

يسعى، يُحاوِلُ، يَعثُرُ

يسعى، يُصِرُّ، ويَظفَرُ

إن الذي يقرأ قصائد الشاعر حسن الإمراني قد يتوهّم أنه ممن ولدوا في فلسطين وعاشوا فيها أو من أبنائها الذين نزحوا عنها؛ ذلك لما يراه من تلهّب عواطفه نحوها ونحو شعبها، وقد يستغرب حين يعلم أن هذا الشاعر يبعد بلده عن فلسطين آلاف الأميال، فهو من أبناء المغرب العربي، ولكن لا غرو أن يعيش شاعر مغربي في بلده بجسده وتعيش روحه داخل فلسطين، فالعجب يتبدد حين نعرف أن في القدس الشريف حيّاً يسمى حيّ المغاربة، وكذلك في دمشق لهم حيّ يعرف بهذا الاسم؛ فلقد قطع إخواننا المغاربة السهول والجبال وجاؤوا إلى هذه البلاد ليحاربوا الصليبيين في بلاد الشام وأبلوا في ذلك بلاءً عظيماً، وها هو شاعرنا قد امتشق اليوم يراعته ليتابع مسيرة النضال مع إخوانه الشعراء والأدباء للذّود عن المسجد الأقصى، القبلة الأولى للمسلمين، والدفاع عن أرض فلسطين وشعبها بالكلمة الطيبة والعاطفة الصادقة والإيمان الراسخ.♦