مجلة العودة

فلسطين في الكاريكاتير المصري (الحلقة الثالثة)

فلسطين في الكاريكاتير المصري (الحلقة الثالثة)
رسومات عبدالسميع كانت سلاح الصحافة المصرية في حرب فلسطين


عبد الرحمن بكر - القاهرة

من المستحيل حين نتحدث عن رحلة كفاح الكاريكاتير المصري وارتباطه ارتباطاً وثيقاً بقضية فلسطين، ألّا نتوقف عند الفنانDescription: http://alawda-mag.net/assets/issue64/p211.gif القدير عبد السميع عبد الله، هذا الفنان الذي أطلقوا عليه اسم "المدفعية الثقيلة في حرب مجلة روز اليوسف على الفساد والاستعمار"، هذا الفنان الذي ما زالت رسومه تُعَدّ وثائق تاريخية تُظهر جميع المعارك السياسية التي دارت في مصر والوطن العربي. بل أكثر من ذلك، فقد كان أول فنان كاريكاتير مصري يُصر على متابعة كل ما يحدث في العالم من ثورات وهموم شعوب تبحث عن الحرية والاستقلال، وقد برز هذا الاهتمام في الصفحتين اللتين خصصتهما له مجلة روز اليوسف بعنوان: "أنباء العالم بريشة عبد السميع". ولم تلق هاتان الصفحتان اهتماماً كبيراً في بداية الأمر، لكن إصراره عليهما والهدف الذي كان يسعى إليه، وهو تعويد القارئ الاهتمام بالسياسة الخارجية، ثم براعة عبد السميع في تصوير المواقف الدولية المتناقضة.

ومن الجدير بالذكر أنه لا تكاد تخلو صفحات هذا الباب في أيٍّ عدد من كاريكاتير يُعبّر عن قضية فلسطين ويسخر من الصهيونية.

لكن من هو عبد السميع، وكيف ظهر هذا الشلال الفني المتدفق؟

وُلد الفنان عبد السميع عبد الله في مصر بمدينة المنوفية أواخر عام 1916، في الوقت الذي وصلت فيه شعوب الوطن العربي إلى أدنى مستويات الفقر والقهر والطغيان بفعل الاحتلال، بينما صعدت عقول أبنائها إلى أعلى مستوياتها، بسبب الحراك الثوري في العالم العربي.

وعبد السميع هو فلاح من المنوفية تعلم وعمل موظفاً في مصلحة المساحة في الأربعينيات، ثم بدأ يرسم الكاريكاتير هاوياً في مجلة "السواري".

وبمجرد أن نُشرت له بعض الرسوم، استقال من وظيفته في مصلحة المساحة، إذ شعر بأنه فنان ولديه رأي يريد أن تفرضه ريشته بقوة. استقال ووهب حياته لفنه، رغم أن مستقبله الفني كان يومها لا يزال غير واضح.

وقد لفتت رسومه أنظار الأديب إحسان عبد القدوس، فبحث عنه ليعمل معه في مجلة روز اليوسف بعد أن تركها أشهر رسامي الكاريكاتير في هذا الزمان، الأرمني إليكس صاروخان والفنان محمد عبد المنعم رخا، وانتقلا للعمل في مجلة آخر ساعة عام 1944. ومن العجيب أنه قبل ظهور الفنان عبد السميع، كان بعض رسامي الكاريكاتير يرسمون في عدد كبير من المجلات. على سبيل المثال، كان الفنان رخا يرسم في خمس عشرة مجلة سياسية في وقت واحد، وكانت آراء المجلات متناقضة؛ فبعضها يدافع عن الوفد، والآخرون يهاجمونه. ولقلة عدد الرسامين، كان الرسام يُضطَرّ إلى إتباع نهج أصحاب المجلة، يمدح في مجلة ما ينقده في مجلة أخرى!! وذلك لأن معظم أفكار الكاريكاتير لم تكن من تأليف الرسام، ولكن كانت تتكون من اجتماع المحررين ورؤساء تحرير المجلة نفسها، وينفّذ الرسام اتُّفق عليه. لكن عبد السميع كان أول ما طلبه من إحسان عبد القدوس ألّا يجعله ينتقد الوفد ولا النحاس باشا؛ لأنه كان وفدياً عنيداً وله قضية يلتزمها التزاماً سياسياً. وكان أيضاً صاحب معظم الأفكار، ويجتمع فقط مع إحسان عبد القدوس ليدرسا الفكرة ويرفض رسم ما لا يؤمن به؛ فقد ظل عبد السميع يرى إلى آخر يوم في حياته أن فنان الكاريكاتير لا ينفصل عن فكره، ولا ينبغي أن يُسلم دماغه لآخر، أيّاً كان هذا الآخر؛ فهو يرفض فكرة الإملاء، هو فقط يرسم ما يراه وما ينبع من فكره وثقافته، أما المجلة أو الجريدة فلها الحق بأن تقبل أو ترفض، وفقاً لسياسة تحريرها أو المزاج الثقافي السائد في تلك الفترة. وكانت هذه بداية لكل من جاء بعده من فناني الكاريكاتير ليسيروا على نهجه.

وقد كان عبد السميع في البداية يؤمن بالوفد وبزعيمه وقتها النحاس باشا فكرةً شعبية وطريقاً إلى التحرر، ثم تطور في مبادئه، فصار يؤمن بالشعب إيماناً لا يتعلق بحزب ولا يتعلق بشخص، لذلك بدأ ينتقد أخطاء النحاس باشا وسياسة حكومته حين رأى أنها لم تعد تعبّر عن رأي الشعب وبدأت تميل إلى المصالح الخاصة، فرسمه هو وفؤاد وسراج الدين باشا على هيئة نجمَي العالم الضاحكين "لورين وهاردي"، وبدأ يتعامل مع قراراتهما على أنها نوع من السذاجة والضحك على الشعب.

وهكذا تطور عبد السميع ولم يعد يؤمن بالشعب المصري وحده، بل أصبح يؤمن بكفاح الشعوب كلها وينسب نفسه إلى كل شعب مكافح.

وهكذا لمع عبد السميع ونجح في أن يقود الوعي المصري خلال السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، وقادت رسومه معارك الحركة الوطنية ضد الاستعمار البريطاني والرجعية. وكانت سلاح الصحافة المصرية في حرب فلسطين، وفاضت ريشته المثقلة بالحبر الأسود على صفحات روز اليوسف وأغلفتها، تهاجم الجريمة الكبرى في حرب فلسطين، "قضية الأسلحة الفاسدة"، وتشير بكل قوة نحو حيدر باشا والخطة التي وضعت لإبادة قوات الفالوجا ونسف أسلحتها. ولم يتوقف عبد السميع عن الهجوم بالكاريكاتير عليه، بل طالب بمحاكمته وسخر حتى من العصا التي يحملها دائماً في يده، وقال: ربما كانت حتى تلك العصا فاسدة مثل الأسلحة! ولم تتوقف رسومه التي صاحبتها حملة من إحسان عبد القدوس، حتى استقال حيدر باشا من منصبه. ولم يكتف عبد السميع بذلك، بل بدأ يشير إلى الملك فاروق نفسه ويسخر منه بشخصه ويوجه إليه أصابع الاتهام، وهو لا يزال متوجاً على عرشه، في الوقت الذي تفرد فيه الصحف المنافقة صفحاتها لمدح إنجازاته ووصف حفلاته. فها هو يرسم شخصية المصري أفندي، وهي تضيء مصباح المطالبة بالحقيقة في ظلام حجرة الملك فاروق الذي يخطّ أوراقه واتفاقياته في الظلام. ولم يتوقف عبد السميع، بل بدأ يشير إلى مثلث القوى الشهير وقتها، المتمثل في الأحزاب السياسية والسرايا والاحتلال البريطاني المتمثل في حكومة الانتداب العدو الأكبر الذي يناصر اليهود علانية، ويعادي العرب علانية، وينزع السلاح من العرب ويتآمر عليهم بالأسلحة الفاسدة، ويبيح السلاح في يد اليهود، ويفرض الضرائب على الأراضي العربية ويمنع إنشاء المؤسسات العربية، بينما يُسهم في إنشاء المؤسسات اليهودية، ما أضطر الحكومة والسرايا إلى تطويق الصحافة وفرض الرقابة بقوة على كل كلمة أو كاريكاتير. وعُيِّن رقيب في كل مجلة، وكان ذلك قبيل الثورة مباشرة، وكان الرقيب يتدخل لمنع الرسوم من النشر، ما أضطر عبد السميع إلى الالتفاف وتنفيذ بعض رسومه المصاحبة للمقالات بطريقة ساخرة يسخر بها حتى من جهل الرقيب، مثل تلك اللوحة التي صاحبت مقالة للأستاذ أحمد بهاء الدين عن كتاب "طوق الحمامة في الألفة والآلاف"، فرسم عبد السميع كاريكاتير لسيدة تنشر ملابسها على سطح منزلها وإلى جوارها ببغاء يقول: "يُنشر.. لا يُنشر.. يُنشر.. لا يُنشر" ونُشر المقال وبجانبه الرسم ولم يلاحظه الرقيب الذي كان يقرأ المادة الصحفية منفصلة. ولم يتوقع أن يكون هناك رسم مصاحب لها، وأن هذا الرسم ماهو إلا سخرية منه هو. تلك السخرية التي جعلت الشعب المصري كله يضحك على الرقيب الببغاء، وجعلت عبد السميع يشعر دائماً بأنه يؤدي دور الزعيم الشعبي المحرض الذي ينتظر كلمته جمهور عريض من مختلف الفئات والأعمار، وحُوِّل عبد السميع في الصباح إلى التحقيق وكاد يُفصل من عمله.

وظلت قضية فلسطين من أهم القضايا التي نطقت بها ريشته؛ فها هو يرى قوة العرب في القضاء على الصهيونية ويرسم أغلفة كثيرة عليها هذا المارد العربي القوي الذي لم تعد له قدم واحدة يضرب بها الصهاينة بل له أقدام كثيرة "قدم مصرية وأخرى عراقية وسعودية ويمنية وسورية ولبنانية وأردنية وفلسطينية، ما يجعل الصهيوني يصرخ قائلاً: كانوا من قبل "قدم وسبعة رؤوس" فكيف أصبحوا رأس وسبعة أقدام؟ كذلك فإنه يصف في كاريكاتير آخر المارد العربي يدوس بقدم الحصار الاقتصادي قدرة الصهاينة على الصمود، ثم يمثّل قوة المخابرات المصرية بعد الثورة في مواجهة الصهاينة بالنظارة السوداء التي اشتهر بها "صلاح نصر" رئيس المخابرات المصرية وقتها وهي ترصد اعتداءات إسرائيل ومؤامراتها وألاعيبها ثم يُعلق قائلاً: هذا هو السلاح الذي تخشاه إسرائيل اليوم.

وهكذا أبدع عبد السميع وشرح القضايا للناس، ولفت أنظارهم وبين لهم الحقائق، وحرضهم وعبأهم بعد أن استهانت فرشاته القوية بالصهيونية والرجعية والاحتلال.

وبعد قيام الثورة بسنوات قليلة بدأ ضباط الثورة يتغولون في فرض رقابتهم وسيطرتهم على الصحف ومصادرتها ومنع إصدار صحف جديدة، فلم يعد يستطيع أن يعبّر بالحرية التي اعتادها على صفحات روز اليوسف، فغادرها عام 1955 إلى جريدة أخبار اليوم ليصدر بها ملحقاً يرسمه ويكتبه بمفرده يوزع مع أخبار اليوم كل سبت قدم فيه الكاريكاتير الاجتماعي والسياسي الدولي ورسم فيه القصص الملونة (ستربس) للأطفال قدم فيه الثنائي الجمل "هبيل" والثعلب "مكار" أراد به أن يعلم الأطفال بعض الإسقاطات السياسية على ما يفعله الاحتلال والصهاينة من مكر الثعلب ودهائه، وكيف يتقبله الجمل العربي الهبيل ببساطة ويتعايش معه. وقد أراد بذلك لأطفالنا أن يتدربوا على الحرية والفهم الصحيح للأمور. ولم يستطع الاستمرار في العمل بجريدة أخبار اليوم طويلاً، وانتقل بشخصياته إلى مجلة سمير يرسمها للأطفال. ورسم الكاريكاتير السياسي والاجتماعي في تلك الفترة في جريدة الشعب حتى إغلاقها، ثم انتقل إلى جريدة "الجمهورية" وظل يعمل فيها حتى تركها في الفترة الشهيرة التي سميت "مذبحة الصحفيين"، وهي مذبحة لحرية الصحافة نُقل فيها عشرات الصحفيين من العمل في وظائفهم الصحفية بجريدة الجمهورية إلى العمل بمؤسسات القطاع العام، وكان نصيبه أن يُنقل إلى العمل في مؤسسة استصلاح الأراضي!!

وتحمّل تلك الفترة بصعوبة. وعند إزالة آثار المذبحة، عاد عبد السميع مرة أخرى إلى العمل بالصحافة، حيث عمل في دار الهلال إلى أن بلغ سن التقاعد!! وآخر مكان عمل فيه كان جريدة الرياض الأسبوعي والسياسي، التي أصدرتها دار التعاون للطبع والنشر، وظل يعمل فيها حتى رحيله في أواخر عام 1985.

وبعد، فإنني أعدّ الفنان عبد السميع نموذجاً مثالياً لمن يفعل ما يؤمن به، ويعمل بكل طاقته من أجل قضيته، تلك القضية التي تكبر وتتشعب كل يوم، فتتحول من قضية شخصية وانتماء إلى قضية قومية وشلال لا يتوقف طالما يشعر في قرارة نفسه بأن يندفع في الاتجاه الصحيح. ♦