مجلة العودة

فلسطين في الكاريكاتير المصري ...بدايات الألم

فلسطين في الكاريكاتير المصري ...بدايات الألم
 
 
عبد الرحمن بكر - القاهرة
 
الكاريكاتير، هو سلاح عبّر عن نفسه في كل العصور، وأثبت قوته في وجه كل ظالم وطاغية ومغتصب، واستطاع أن يترجم الواقع بكل مرارته دون أحرفٍ تُقرأ، أو بكلمات قليلة ساخرة، وسيسجل التاريخ أن هذا الفن العميق الجذور الذي كانت بدايته في مصر من التقليد، إلى التطور إلى التحدي لكل مدارسه والنجاح في منافستها، رغم كل محاولات الاحتلال لطمس العقول العربية وتكبيل الأقلام والفنون في مجتمعاتنا، فهو فن قديم قدم الزمان، وقد كان معروفاً لدى قدماء المصريين رسموه ونحتوه على جدران المعابد، فهو فن النقد اللاذع والريشة الصارخةً بالرفض والثورة على أوضاع المجتمع، وهو بمثابة قذيفة تُطلق في وجه الحكومات والأنظمة الفاسدة. واللوحة الكاريكاتورية تبرز لك المأساة ملخصة في خطوط، وتدخل بلا استئذان في قلب الحدث، بلغة المبالغة والتضخيم، والسخرية اللاذعة الموجعة. وللكاريكاتير المصري دور فعال في تاريخ القضية الفلسطينية، منذ بدايتها إبان الحرب العالمية، إلى اليوم. والريشة المقاتلة تطارد العدو الصهيوني وتتحدث بأقوى لغة عالمية، هي لغة "بدون تعليق" في معظم الأحيان؛ فالأحداث بمرارتها أقوى من أي تعليق، وظلت اللوحات الكاريكاتيرية المصرية المعبرة عن القضية تتنقل من مجلة إلى جريدة متابعة للأحداث، حتى صارت تاريخاً مصاحباً لتاريخ القضية نفسها، وحتى أجبرت العالم الغربي على التفاعل مع قضية كل عربي، ونبهت الشعوب المضللة إلى ما يغذي اليهود عقولهم من عداء للعرب وللمسلمين جميعاً، وفي النهاية بدأت ثمار هذا العمل تنبت في جرائد العالم، وظهرت الريشات الأجنبية المحايدة تصف الأوضاع وتتابع الإحداث. وانتبه العالم إلى قوة سلاح الكاريكاتير وتأثيره على المجتمعات. وأذكر أنه هذا العام فاز كاريكاتير سياسي بأفضل جائزة للكاريكاتير في الولايات المتحدة نفسها، هو عبارة عن حوار بين طفل فلسطيني وآخر يهودي، ليوصل رسالة حقيقية عن واقع يحدث كل يوم على الأرض الفلسطينية، خلافًا لما يُروَّج له في الإعلام الأميركي والكاريكاتير الذي جمع الرسام فيه بين طفلين أحدهما يهودي والآخر فلسطيني. الطفل اليهودي يقول: إن أبي أخبرني أنكم أنتم العرب حيوانات إرهابيون أشرار، فيجيبه الطفل الفلسطيني قائلاً: إن أبي لم يخبرني بشيء.. لأن أباك قتله.

كذلك أذكر ذلك الكاريكاتير الذي نشرته منذ سنوات جريدة "لاستامبا" الإيطالية والذي عبّر عن القضية الفلسطينية، واستطاع أن يستفز الجالية اليهودية أشد استفزاز حين رسم فنان إيطالي السيد المسيح في المهد والدبابات الإسرائيلية تهاجمه، بينما هو ينادي صارخًا: "أغيثوني يريدون قتلي مرة أخرى". وهكذا كان لا بد من تلك البداية لنعرف إلى أيّ مدى نجح الكاريكاتير العربي في إبراز القضية وتوضيحها، حتى أصبح كل فنان حر في العالم الغربي يتحدث عن قضية فلسطين بحيادية غير عابئ بتهمة معاداة السامية.

وإذا كان العالم العربي قد شهد ولادة فن الكاريكاتير مرتبطاً بالسخرية والنقد مع يعقوب صنوع، صاحب الجريدة الهزلية "أبو نضار"، إلا أن

الكاريكاتير الحقيقي في مصر كان مع بداية القرن التاسع عشر على يد فنانين غير مصريين، لكنهم جميعاً جمعتهم المأساة، وكانت مصر لهم هي المأوى. فإذا استثنينا الإسباني سانتس الذي كان يعمل مدرساً في مدرسة الفنون، وتلخص عمله الكاريكاتيري في رسم البورتريه، ورسم الكاريكاتير لمجلة الكشكول، لصاحبها حسين فوزي، التي كانت تهاجم سعد زغلول، الممثل الحقيقي للشعب وثورته، وتساند القصر الملكي، فإننا سنتوقف كثيراً عند الفنان الأرمني صاروخان الذي جاء بعد مأساة الأرمن ووجد في مصر المأوى والملاذ والحياة الكريمة، فكان مع الشعب، وجعل ريشته في خدمة قضايا الوطن، وإن كانت القضية التي غلبت على الساحة وقت ذاك هي قضية الاحتلال الإنكليزي، والتحرر، إلا أنه كأن يجلس مع الأدباء والمبدعين في مجال الصحافة وعلى رأسهم التابعي ومصطفى أمين ليناقش معهم أفكار الكاريكاتير التي تخدم هذا الوطن العربي بالجملة، لا قضية تحرير مصر وحدها. وبمرور الزمان، شغلت قضية فلسطين بعد حرب 48 الكيان المصري كله والصحافة المصرية، فتحركت كل ريشة قوية لتعبّر عن القضية العربية الكبرى، قضية كل المسلمين، وتحركت معها ريشة الفنان صاروخان. أما الفنان الثالث في تاريخ الكاريكاتير في الصحافة المصرية، فكان الفنان "علي رفقي"، وهو أيضاً جاء من رحم المعاناة ليعيش في حضن مصر الوطن الأم؛ فقد كان مهندساً وجندياً جركسياً ترقى في المناصب حتى صار كبير ياوران السلطان عبد الحميد، آخر سلاطنة الدولة العثمانية، وعند اجتياح أتاتورك لتركيا، كان من بين من نجوا من المعركة، ولم يجد له مكان في بلاد سيطر عليها طاغية، فراح يبحث عن الأمان له ولأسرته في مصر، وعمل فيها مهندساً في المساحة "المهندس خانة"، وكان يتقن فن الكاريكاتير، فانفتحت له أبواب المجلات، وعلى رأسها الكشكول، لكنه رفض أن يهاجم سعد زغلول، وأن يكون مع القصر ضد الشعب، رغم ما في ذلك من ثراء. وانطلقت ريشته الحرة تساند قضايا الوطن الواحد ليهاجم مجلة الكشكول في مجلة خيال الظل، برسومه الكاريكاتيرية الرشيقة، وينتقل منها إلى دار الهلال ليعمل بجوار الرسام الفرنسي برني في كل مطبوعاتها. ولما وجد الهلال داراً محايدة يخشى صاحبها جرجي زيدان المصادرة التي تأتي من وراء الرأي الحر يصدر الفنان رفقي الكثير من المطبوعات ويعمل في رسم الكاريكاتير بكل منشور أو مجلة تتعلق بتحرير أمة من الأمم العربية، ما يعرضه بعد سنوات للتهديد أكثر من مرة بالفصل من الهلال، فيترك الهلال ويعمل في صناعة الأخبار ثم يعود مرة أخرى لصراع الريشة الرهيبة وقضايا الوطن العربي الساخنة. 

تلك كانت البداية، بداية هذا الفن في مصر، قبل أن تأتي أول ريشة مصرية حقيقية قوية، وهي ريشة الفنان الكبير "محمد عبد المنعم رخا"، هذا الذي نجح في أن يُمصّر هذا الفن، وأن يجعل له روحاً خفيفة وضربات سياسية لاذعة. وكان اتحاده مع عمالقة الكتّاب وعلى رأسهم مصطفى وعلي أمين ومحمد التابعي قد كوّن ثورة حقيقية في تاريخ الكاريكاتير، وقد عدّه جميع النقاد أول رسام كاريكاتير مصري يستخدم فنه لأغراض سياسية واجتماعيه ويصنع شخصيات قوية قام بتصويرها، مثل شخصية "بنت البلد" و"ميمي بيه" و"قرفان بيه" و"غني حرب" و"رفيعة هانم وقصبي أفندي"، وحمار أفندي، وعلى رأسها جميعاً شخصية المصري أفندي التي بدأها صاروخان وقام رخا بإكمال مسيرتها. كل هذه الشخصيات مثلت صوراً حية لأناس نقابلهم في حياتنا العامة وهي لم تكن تتحدث فقط عن الحياة الاجتماعية في مصر، بل عن سياسة مصر وتعاملها مع قضايا الأمة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

ورغم أن هذا الفنان العبقري الذي بدأ في الرسم عام 1923 في مجلة التلميذ وعمره أربعة عشر عاماً، وتنقل في مئات المجلات، إلا أن ريشته بلغت ذروتها من القوة في جريدة أخبار اليوم، حيث أدى الكاريكاتير دوراً هاماً في أشكال الصراع المختلفة، وبالتحديد مع نهاية الحرب العالمية الثانية حيث شهد العالم العديد من الأحداث خاصة الصراع (الإسرائيلي ـ العربي) وكيف بدأ اليهود يحققون حلمهم بتكوين دولتهم على أرض فلسطين الأبية، وبدأ اللاجئون الفلسطينيون يعانون من قضية التشريد. وتغيرت منذ هذا العهد وجهة الكاريكاتير المصري الذي كان قد بدأ في التخلص من الاحتلال إلى الاهتمام بالقضايا القومية العربية، وعلى رأسها قضية فلسطين، وكان له دور مميز في رصد جرائم الاحتلال الإسرائيلي على مدار العقود الماضية، من قتل وتشريد وتدمير وتجريف للأراضي وتهويد للقدس وبناء الجدار العنصري الفاصل. وكان للفنان رخا دور رهيب في تتفيه العدو الصهيوني والسخرية منه في عيون المواطن والمقاتل العربي؛ حيث أصر في الكثير من أعداد جريدة "أخبار اليوم" ومجلة "آخر ساعة" أن يسخر من الحياة الاجتماعية في تل أبيب ويصور لنا التفكك الأسري والطمع المادي، فنشر مئات الرسوم الساخرة بهذا العنوان. وعند أي تهديد صهيوني كانت نكتته اللاذعة تلهب الضحكات، كما في اليوم الذي أعلنت فيه إذاعة إسرائيل استدعاء جنود الاحتياط بالشفرة، فرسم يومها امرأة يهودية تلطم وتصرخ "يا لهوتي ي ي"، معلقاً عليها بأنها شفرة الاستدعاء الإسرائيلية. كذلك، كانت عصا الفلاح المصري البسيط القوية تحطّم تمثال الرهبة الصهيوني الذي صنعه العدو على شكل مقاتل وكتب عليه "لا يهزم".

ويقول الفنان رخا رحمه الله "وهو الفنان الذي قضى من عمره في السجن أربع سنوات بسبب لوحة كاريكاتورية رسمها" إن "الكاريكاتير لا يزدهر، ولا يكون له دور إلا في ظل الحرية؛ فالعدو اللدود لرسام الكاريكاتير هو القهر والديكتاتورية، فالكاتب يستطيع أن يقول شيئاً قريباً مما يريد في كل الظروف. أما رسام الكاريكاتير، فلا يستطيع إلا أن يكون واضحاً في موقفه بلا لفّ أو دوران؛ لأن الكاريكاتير هو أبيض أو أسود يعني "مع" أو "ضد" تهاجم أو تؤيد، ولا يمكن لرسام الكاريكاتير أن يتخفى، أو يجمع بين الضدين، ولا يمكنه أيضاً أن يغلق فمه ويخرس، كما تفعل الأنظمة العربية.♦