مجلة العودة

«هوية» تُطلق قسم أفلام الفيديو على موقعها الإلكتروني

«هوية» تُطلق قسم أفلام الفيديو على موقعها الإلكتروني
هل يصبح توثيق التاريخ الشفوي همّاً وطنياً يتبنّاه الشباب؟


عمر وهبي - بيروت


التقاها على عجل ومن غير موعد، عندما كان مندوب مؤسسة «هُوية» يمرّ بجانب بيت جدته (من قرية أم الفرج)، إلا أنه أبى أن يغادر قبل أن يسجل مقطعاً مع جدته، وكان حينها يحمل كاميرا التصوير مصادفة، واعداً إياها بأن يحضر لتسجيل شهادتها على نكبة فلسطين. بعد عدة أيام عاد المندوب، لكن ليس للتسجيل، بل لتقديم التعازي بوفاتها. ولم يكن يعلم أن المقطع القصير المسجل هو آخر ما يملكه لصوت جدته وصورتها، وبات المقطع من أثمن ما يملكه من أثر جدته.كذلك 14 يوماً إضافية على أعمار شهود النكبة، كانت كفيلة بأن تدفن كثيراً من الصور والذكريات والحقائق، فعندما علم مندوب «هوية» في صيدا بأن هناك مسنّة تحفظ كثيراً من المعلومات عن فلسطين والعائلات الفلسطينية، وتُدعى نعيمة أم خالد (قرية بلعة – طولكرم)، طلب من حفيدها تحديد موعد للقائها بعد أسبوعين. لكن عندما التقاه، سأله عن قابلية إجراء المقابلة، فأجابه حفيدها: «العوض بسلامتك. أم خالد توفيت، رحمها الله».

غيّب الموت والنسيان كثيراً من جيل فلسطين الذين يحفظون تاريخ بلدهم وقراهم، وتحالفت آلام طردهم من فلسطين مع طول أمد اللجوء ومعاناته لتسرع في خطفه من هذا العالم الظالم. فهي لحظات من عمره الطويل يسجلها الشاهد على نكبة الماضي، لتبقى حاضرة لمن يأتي بعده، وفي متناول الأجيال أينما حلّت.

منذ انطلاقته، دأب المشروع الوطني للحفاظ على جذور العائلة الفلسطينية «هوية» على تسجيل مقاطع عن حياة رجال من جيل فلسطين الباقي في لبنان، لا لصناعة أفلام وثائقية أو لكتابة تاريخ قرى وبلدات انحدروا منها فقط، بل هو عملية توثيق حيّة لحقوق اللاجئين بأرضهم، وربما لا يدرك أهميتها الشاهد نفسه.

مع بدايات العمل على جمع شجرات العائلات، تكرست فكرة التوثيق مع كبار السن (بالصوت والصورة) قبل فوات الأوان، فخُصِّص جزء من عمل المؤسسة لهذا الجانب، واتخذ التسجيل والتوثيق معهم شكلين: الفردي، وهو عبارة عن زيارة خاصة لشهود النكبة وتوثيق ما عندهم، أو جماعي من خلال بعض الأنشطة والرحلات المخصصة لكبار السن، وكان الهدف الأساس توثيق هذه المادة.

مع الوقت، صار الأبناء ـ وأحياناً الأحفاد ـ يسألون عن مصير هذه التسجيلات وكيفية مشاهدتها، فكان الاهتمام بكيفية تقديم هذه المادة للناس للاستفادة منها من وجهين: نشر المادة أو الشهادة نفسها لتكون بمتناول الجميع والاستفادة من مضمونها، والثاني هو تعزيز الترابط الأسري والتواصل، وخاصة مع المغتربين الذين لا تتسنى لهم مجالسة هؤلاء الكبار.

لهذا الغرض أطلقت «هُوية» القسم الخاص بأفلام الفيديو على موقعها الإلكتروني، وهو قسم مخصص لعرض مقابلات مختصرة مع شهود النكبة وتقارير مصورة عن المدن والقرى الفلسطينية، إضافة إلى مجموعة من الأفلام المتعلقة بعموم القضية الفلسطينية. وفي المقام الأول تنشر «هُوية» الأفلام التي صوّرها وأعدّها فريق العمل في المشروع، ولكنها تضيف في هذا القسم أيضاً مجموعة من الأفلام التي أعدها أفراد ومؤسسات أخرى، أو حتى حلقات وبرامج تلفزيونية سبق نشرها على مواقع متعددة.

فكان الخيار إما أن تستفيد المؤسسة من بعض المواقع العالمية والمخصصة لعرض أفلام الفيديو، وإما أن تؤسس لهذا العمل قسماً خاصاً لتقدم المادة مجمعة ومبوبة بشكل مميز، فكان التوجه نحو الخيار الثاني، حيث يستطيع الباحث عن عائلة معينة أن يشاهد كل الأفلام المتعلقة بهذه العائلة في صفحة واحدة.

والغرض من هذا العمل، كما يقول القائمون على المشروع، هو جمع المواد المتعلقة بالعائلات والبلدات الفلسطينية وتبويبها تبويباً علمياً ليسهل على المتصفح والزائر الوصول إلى هذه الأفلام بأيسر الطرق. وقد تركت «هُوية» الباب مشرعاً لأي مشاركة من الجمهور تثري هذا العمل، بل هي تحرص من خلال المعارض والمحاضرات لحثّ جيل الشباب والمؤسسات الناشطة في الأوساط الشبابية على المساهمة في هذه المهمة، وذلك يكون عبر التواصل مع إدارة الموقع الإلكتروني أو مع المندوبين مباشرة.

التحدي الذي يقف أمام فريق عمل «هُوية» هو إيصال فكرة تسجيل التاريخ الشفوي للجمهور، بحيث يصبح كل شاب وشابة متحمسين وحريصين على التوثيق لأهلهما وأقاربهما، ولو فردياً وبمستوى هواة، "حتى نتمكن من استدراك ما فاتنا؛ فهي مسؤولية مشتركة بين المؤسسة وأبناء العائلات؛ فلولا وجود مشروع وطني يرعى هذه المسيرة وأفراد يساعدون الناشطين في «هوية» للوصول إلى كبار السنّ لما أنجز شيءٌ من هذا القسم".

على الرغم من حرص «هوية» على التصوير مع أي فلسطيني ولد في فلسطين، موطنه الأصلي، وإن لدقائق معدودة، إلا أنّ القائمين على قسم الفيديو يُعطون أولوية لمن لا تزال ذاكرته تسمح له بتقديم ما اختزنه فيها من معلومات. وتجدر الإشارة إلى أن أفلام الفيديو المدرجة في الموقع لا تحوي المقابلة كاملة، بل هي مقاطع مقتضبة عن أبرز ما يذكره الشاهد.

تتركز أسئلة المقابلة خلال التصوير بداية على تعريف الشاهد بنفسه وذكر اسمه كاملاً (تعداد الجدود الذين يعرف أسماءهم)، وصولاً إلى اسم عائلته. ومن ثم ينتقل إلى تسمية العائلات التي كانت موجودة في القرية أو المدينة التي سكن فيها، مع بعض التفاصيل عن حجم العائلات، ولو بشكل تقريبي. بعد ذلك يجري التطرق إلى موقع القرية الجغرافي وما يحيط بها من قرى وسهول وجبال، قبل الدخول إلى معالم القرية الأثرية وغير الأثرية من بيوت وساحات وبرك وسوق يرتاده الساكن والزوار، وكذلك الأحياء وما فيها من عائلات ومحال تجارية.

وتراوح المقابلة بين ما يعرفه من عادات وتقاليد ونمط الحياة للسكان قبل النكبة، وهنا لا ننسى عادات الزواج والأفراح والأحزان، وكذلك المناسبات الدينية من أعياد وموسم الحج ورمضان والطقوس المعتمدة والمتكررة التي يقوم بها أبناء القرية.

كذلك يُعرّج السائل على ما عايشه الشاهد من أحداث ثورة 1936 والنكبة بحسب عمره؛ فمنهم من شهد هذه الأحداث بالتفصيل، بينما آخرون لم يكونوا قد ولدوا آنذاك، وربما كانوا صغاراً في ذلك الوقت. لذا، يُعاد السؤال بطريقة أخرى، فلا بدّ أن يكون قد سمع من والديه أو أحدهما شيئاً عن أحداث وقعت قبل النكبة.

وتُختم المقابلة بسؤال الشاهد عن مدى إصراره على العودة بعد طول غياب وفشل كل المحاولات السابقة، وما إذا كان ينوي العودة إلى فلسطين إن سنحت له الفرصة. والملاحظ في معظم الأفلام أو كلها، أن الكبار بمنتهى الإصرار على العودة، ويستخدمون تعابير تحمل مدى حبهم ورغبتهم بذلك؛ فمنهم من أجاب بأنه سيعود ولو حافي القدمين، ومنهم من سيعود ولو مشياً على الأقدام، وآخرون صرحوا بأنهم يفضلون العيش في خيم على تراب وطنهم بدلاً من امتلاك قصر خارج فلسطين.

واستثماراً للوقت، كانت "هوية" قد نظمت بعض الرحلات لمجموعات من كبار السن في جنوب لبنان، وتقوم الفكرة على جمع ما بين 15 إلى 30 مسناً في متنزّه، حيث تُجرى المقابلات معهم، إضافة إلى جمع شجرات عائلاتهم. وفي الوقت نفسه، هو نشاط لشكرهم على عطائهم وتعاونهم مع المؤسسة في إنجاح مشروعها.

ونظمت المؤسسة عدداً من الرحلات ضمن برنامج خاص يحمل عنوان «شهود النكبة.. ذاكرة الأرض واللجوء»، وهو برنامج توثيق جماعي شمل 3 مخيمات في مدينة صور جنوب لبنان، هي: برج الشمالي، الرشيدية والبص، بالإضافة إلى تجمُّعي القاسمية (صور) ووادي الزينة (صيدا). واصطحب العديد من الحاضرين أوراقاً ووثائق حملوها من فلسطين لتقديم نسخ صورية (فوتوغرافية) عنها إلى «هوية» للاحتفاظ بها وأرشفتها. وعبّر العديد منهم عن سعادتهم لما توليه المؤسسة من اهتمام لهم باعتبارهم رعيل الهجرة الأول.

وكان أغلب المشاركين ممن خرجوا من قرى شمال فلسطين، وهي: الجاعونة، سحماتا، الناعمة، سعسع، الشيخ داوود، دير القاسي، منشية عكا، أم الفرج، صفورية، الزوق التحتاني، وادي الحنداش، بلدة النهر، مدينة عكا، عرب السمنية، مدينة حيفا... وتتعاون "هوية" مع بعض المؤسسات المعنية برعاية كبار السن في المخيمات الفلسطينية، بهدف الاستفادة في أي جانب يمكّن «هوية» من الالتقاء بكبار السن والتسجيل معهم.

كذلك نظّم فريق العمل في «هوية» عدداً من الزيارات لروابط القرى والعائلات وجمعياتها في الأردن، لفتح آفاق التعاون معها، ومنها: جمعيات الفالوجة، الولجة، نعلين، عصيرة الشمالية، بدرس، العباسيّة، بيت المقدس، بيت عور التحتا، قلقيلية، المزيرعة، شويكة وغيرها..♦