مجلة العودة

وعدُ بلفور في قصائد الشعراء صرخةٌ للأحرار وتحفيزٌ للثوّار

وعدُ بلفور في قصائد الشعراء

صرخةٌ للأحرار وتحفيزٌ للثوّار

العودة/دمشق
 
 
من أعظم الدواهي التي أصابت الأمة العربية والإسلامية في القرن العشرين سقوط فلسطين بأيدي اليهود في عام ألف وتسعمئة وثمانية وأربعين ميلادي، وقد سبق ذلك وعدُ بلفور في عام ألف وتسعمئة وسبعة عشر. إن هذا الوعد هو الذي مهّد لاحتلال اليهود لفلسطين. لذلك، تناوله الشعراء العرب على مختلف مشاربهم، ونددوا به منذ صدر، ولا يزالون ينددون به حتى اليوم. ومن هؤلاء الشعراء إبراهيم طوقان الذي خاطب الحكام وعِلية قومه وناشدهم ألاّ يزيدوا البلوى على فلسطين وأهلها؛ فقد يكفيها الانتداب البريطاني الذي أرهق البلاد وأهلها، حتى أذاب الأفئدة من الحزن عليهم. وسبب هذه البلوى هو أنّ عِلية القوم مشغولون عن وطنهم ودينهم بطلب المناصب، بينما الأعداء يفعلون ما يريدون:

يا سراةَ البِلاد يَكفي البِلادا

ما أَذابَ القُلوبَ وَالأَكبادا

اِنتِدابٌ أَحدُّ مِن شفرةِ السَيفِ

 وَأَورى مِن المَنايا زِنادا

وَعَدُ بَلفور دَكّها فَلِماذا

تَجعَلون الأَنقاضَ مِنها رَمادا

وأما الشاعر إيليا أبو ماضي فيؤكد بطلان وعد بلفور؛ لأنه وعدُ مَن لا يملك لمن لا يستحق؛ فقد كانت هذه المنيحة على حساب العرب، وليست على حسابه، فكيف يعدّه الغاصبون محسناً بهذا الوعد:

فَقُل لِليَهودِ وَأَشياعِهِم

لَقَد خَدَعَتكُم بُروقُ السَّنا

أَلا لَيتَ بِلفورَ أَعطاكُمُ 

بِلاداً لَهُ لا بِلاداً لَنا

 وَمَنّاكُمُ وَطَناً في النُجومِ

فَلا عَرَبِيَّ بِتِلكَ الدُنى

        أَيَسلُبُ قَومَكُم رُشدَهُم        

وَيَدعوهُ قَومُكُم مُحسِنا

ويرى الشاعر عبد الرحيم محمود أن قومه هم السبب بما حلّ بهم من عنت وضيم بسبب استكانتهم لعدوهم، واعتقادهم بأن العدو سيصحو ضميره غداً فيعاملهم بالعدل، فهو يقول على لسان قومه:

مَرَّت بِنا الأَيّامُ بَينَ تَعَلّلٍ

بِغَدٍ فَضاعَت بِالرُؤى الأَحلامُ

ظَلنا نَقولُ غَداً يَفيقُ ضَميرُ مَن

فَقَدَ الضَميرَ وَيَعدلُ الظُلاّمُ

ظَلنا نُغَرَّرُ بِالوُعودِ وَيَنطَلي

كَذِبٌ وَيَفعَلُ فِعلَهُ الإيهامُ

ثم يقرر أن ما أصاب قومه جرّاء وعد بلفور إنما سببه التفرق الذي أصابهم، حتى إن المصائب تفرقهم، بينما يجد أن المصائب تلمّ شتات عدوّهم وتوحده:

بلفورُ ما بلفورُ ماذا وَعُدُهُ

لَو لَم يَكُن أَفعالَنا الإِبرامُ

إِنّا بِأَيدينا جَرَحنا قَلبَنا

وَبِنا إِلَينا جاءَت الآلامُ

فينا عَنِ الحُبِّ المُجَمِّعِ جَفوَةٌ

وَلَنا بِصَحراءِ الخِصامِ هُيامُ

وَالخَطبُ فَرَّقَنا قَبائِلَ جَمَّةً        

وَالخَطبُ عِندَ عُداتِنا لَمّامُ

 

وينظر الشاعر فؤاد الخطيب إلى غدر اليهود التي يشنون عدوانهم أثناء موسم الحج، ويتساءل ألم ينفَد السم الذي استمدوه من وعد بلفور؟ فهم يريدون أن يثيروا الفتن حتى في مناسك الحج، وهم ليسوا بمجرم جديد، ولكنهم معرقون في الإجرام:

فسَلْ عُصبةً أنْحَتْ على كلِّ بقعةٍ

من العُرْبِ تجتاحُ الديارَ وتغدُرُ

مهتَّكةَ الأستارِ بالبَغْيِ فاضحاً

ملطخةَ الأظفارِ بالدَّمِ يُهدَرُ

أما استَنْزَفَتْ من عهدِ بلفورَ سُمَّها

وهل عندها مِن بعدهِ ما تُبلفِرُ

أتقبلُ بالعدوانِ والحجُّ مُقبِلٌ

فتوقدُ ناراً في الجِوارِ وتُسْعِرُ

وترقبُ أن تغشى المناسكَ فتنةٌ

تَهُبُّ عليها الريحُ والريحُ صَرْصَرُ

وما هي بالجاني الجديدِ وإنّها        

لأبعدُ عرقاً في الجناةِ وأشهَرُ

وفي عام ألف وتسعمئة وخمسة وأربعين ميلادي نظم الشاعر الجواهري قصيدة بعنوان (وعد بلفور) ينبّه فيها إلى المصير السيئ الذي ينتظر فلسطين بعد أن زادت هجرة اليهود إليها، ويطلب فيها من الفلسطينيين أن يعتمدوا على أنفسهم، ويوصيهم بالصبر، وأن يطلبوا الموت لتوهب لهم الحياة، فقال مخاطباً فلسطين:

خذي مَسعاكِ مُثَخنةَ الجِراحِ

ونامي فوقَ داميةِ الصِفاحِ

ومُدِّي بالمماتِ إلى حياةٍ

تسَرُّ وبالعَناءِ إلى ارتياحِ

وقَرّي فوقَ جَمرِكِ أو تُرَدِّي

من العُقبى إلى أمرٍ صُراحِ

ويطلب من فلسطين أن تجود بالضحايا كما تجود بالأضاحي، لأن الحق تبذل فيه الدماء، مَثَلُه مثلُ المروءة والسماح، والشعوب التي تبني مجدها بالدماء يرسخ مجدها مدى التاريخ:

فكُوني في سماحِكِ بالضحايا

كعهدكِ في سماحِكِ بالأضاحي

فإن الحقَّ، يقطُرُ جانباهُ

دَماً، صِِنوَ المُروُءةِِ والسماحِ

وتأريخُ الشُعوبِ إذا تَبَنّى

دمَ الأحرارِ لا يمحوهُ ماحي

ثم يلقي السلام على فلسطين، ويصف كيف أقبل الغزاة عليها، وانطلق الإنذار بالشر:

فِلَسْطينٌ سَلامُ اللهِ يَسري

على تلك المشارِفِ والبطاحِ

رأيتُكِ مِن خِلال الفَجرِ يُلقي

على خُضْر الرُّبا أحلى وِشاحِ

أطَلَّ النَسرُ مُنتصِباً عليهِ

فهبَّ الديكُ يُنذِرُ بالصياحِ

ويخاطب فلسطين التي هي أم القدس، التي اعتادت النضال والكفاح منذ القديم، وذكرى (بخت نصر) الغازي يكررها اليوم القائد الغازي (ألنبي) فأيامها كلها كفاح، بأن عليها ألاّ تضطرب لأن مستقبلها مضيء، رغم ما تتعرض له من مصائب:

أأمَّ القُدْسِ والتأريخُ دامٍ

ويومُكِ مثلُ أمسِكِ في الكفاح

ومَُهدُكِ وهو مهبِطُ كُلِّ وحيٍ

كنعشكِ وهو مُشتَجرُ الرِماح

وذكرى " بختَ نُصَّر" في الفيافي

يُجَدِّدُها (أِلنْبي) في الضواحي

فلا تَتَخبَّطي فالليلُ داجٍ

وإنْ لم يَبْقَ بُدٌّ مِن صباح

شَدَدْتِ عُرى نِطاقِكِ فاستمِري

ولا يثقُلْ عليكِ فتُستباحي

ويطلب من فلسطين ألاّ تعتمد عليهم فهم لا يتقنون إلاّ البكاء والنواح، وهم أصحاب أقوال لا أفعال، وتقتصر نصرتهم لها على ضرب الكف بالكف من الحزن:

ولا تُغْنَيْ بِنا إنّا بُكاةٌ

نَمُدُّكِ بالعويل وبالصياحِ

ولا تُغْنَيْ بِنا فالفِعلُ جَوٌّ

مَغِيْمٌ عِندَنا والقولُ صاحِ

ولن تَجدي كإيانا نصيراً

يَدُقُّ من الأسى راحاً براحِ

ويختم الجواهري قصيدته بحديث صريح ونصيحة مهمة:

وأُصدِقُكِ الحديثَ فكم حُلولٍ

حرامٍ ، لُحْنَ في زِيٍّ مُباح

 نُطَوِّفُ ما نُطَوِّفُ ثُم نأوي

إلى بيتٍ  أُقيمَ على  اقتراح

يُخَرِّجُ ألفَ وجه مِنْ حديثٍ

ويَخْلُقُ ألْفَ معنىً لاصطلاح

وعندما تحرك الجيش العربي لإنقاذ فلسطين تغيرت لهجة الجواهري وهو ينظر إلى كتائب جيش الإنقاذ تسارع نحو فلسطين، فيدعو الجنود إلى أن يتدللوا في ساح القتال ويتباهوا بجراحهم وضمادهم، وأن يرشفوا بثغورهم من السيوف القاطعة، وأن يبذلوا أنفسهم النفيسة ضحايا فيقول:

دَلالاً في مَياديِنِ الجِهاد

وتيهاً بالجِراحِ وبالضِّمادِ

ِورَشْفاً بالثغورِ من المَواضي

وأخذاً بالعِناق من الجِهادِ

وبذلاً للنفيِس مِن الضحايا

فَأنْفَسُ منهمُ شَرفُ البلادِ

ويبين أن وعد بلفور هو الذي دعاهم في الماضي قبل عشرين عاماً ونادتهم فلسطين قبلاً فكانت قلوبهم قاسية، وكانوا يركنون إلى حكام ضعاف متبجحين:

حماةَ الدارِ من عشرينَ عاماً

تقضَّتْ فاتَنا يومُ التَّنادي

دعانا وعدُ بلفورٍ وثنّى

وثلّثَ صائحُ البلدِ المُذاد

ونادتْنا بألسِنَةٍ حِدادٍ

دِماءٌ في قرارةِ كلِّ وادي

ومَوجاتٌ من الكُرَبِ الشدادِ

تَراوَحُ بانتقاصٍ وازدياد

فكنّا نسْتَنِيمُ إلى قُلوبٍ

قَدَدْناها من الصُّمَ الصِلاد

وكنّا نستجير إلى زعيمٍ

كلِيلِ السيفِ لمّاع النِّجاد

وفي المناسبة نفسها يعلو صوت الشاعر عبد الله البردّوني، وهو يتغنى ببطولات الجنود في الميدان، إنه اليماني الذي يخاطب أخاه الفلسطيني ليخرجا معاً لسحق العصبة التي نشرت الفرقة بين بلاد العرب:

يا أخي يا ابنَ الفِدا فيمَ التّمادي

وفلسطينُ تنادي وتنادي؟

يا أخي يا ابنَ فلسطين انطلقْ

عاصفاً وارم العدا خلف البعاد

سرْ بنا نسحقْ بأرضي عصبةً

فرّقت بين بلادي وبلادي

وليقل الأخ الفلسطيني لحيفا أن تستقبل عودة المناضلين، وأن يبشرها بالعودة إليها بعد أن تشهت الربا عودتهم، وسألت عنهم مجالس السمر:

قل لحيفا: استقبلي عودَتنا

وابشري ها نحن في دربِ المعادِ

واخبري كيف تشَهّتنا الرُّبا

أفصحي كم سألتْ عنّا النوادي!

وبعد ذلك يهدد إسرائيل بأن حلمها باغتصاب الأرض يتبدد، ووعد بلفور بدأ يتلاشى عندما التقت جنود الأمة العربية على هدف واحد وهو فداء الأرض:

قل لإسرائيل يا حلم الكرى:

زعزعتْ عودتُنا حلْمَ الرُّقادِ

خابَ بلفور وخابتُ يدُهُ

خيبةَ التُّجّارِ في سوقِ الكَسادِ

لم يسعْ، لا لم يسعْ شعبٌ أنا

قلبُهُ وهو فؤادٌ في فؤادي

قل لبلفور: تلاقت في الفدى

أمّة العرب وهبّت للتفادي

إن الدربَ دربَ الفداء قد وحّدت خطاهم، وعندما أعلنوا اتحادهم واتفاق أهوائهم، أذعنت لهم الدنيا وأسلست لهم قيادها، فاصبحوا أمة يسوقون الهُدى إلى باقي الأمم، ويرشدون كل تائه:

وحّدَ الدربُ خُطانا والتقتْ

أمّتي في وحدةٍ أو في اتّحادِ

عندما قلنا: اتّحدْنا في الهوى

قالتِ الدنيا لنا: هاكُم قِيادي

ومضينا أمّةً تُزجي الهُدى

أينما سارتْ وتَهدي كلَّ عادي

 

أما شاعر الحمراء فقد هلل حينما علم بنُفوق هذا المجرم بلفور، وراح يتغنى بالبشر والسرور الذي بدا على الناس بموته، كيف لا يفرح الشاعر ويفرح الناس وجهنم تنتظر هذا الظالم النَّتِن، وكذلك دعا لعنة الله أن تقيم في قبره فلا تبارحه لرجسه وفجوره:   

البِشرُ بشرٌ والسُّرورُ سُرورُ

بالأمسِ ماتَ عَدُوُّنا بِلفورُ

يا لَعنةَ اللهِ اسكُني في قَبرِهِ

فالرِّيحُ رِجسٌ والِفعالُ فُجورُ

 

إن كثرة الشعراء العرب الفلسطينيين وغيرهم الذين تناولوا وعد بلفور يدل على حجم هذه الكارثة، وعلى شدة معاناة الأمة العربية والإسلامية منها، وهي لا شك تبدي ما يخف