مجلة العودة

ثقافة العودة: مقابلة مع الفنان التشكيلي عبد المعطي أبو زيد

الفنان التشكيلي عبد المعطي أبو زيد
سرق الصهاينة تراثنا فاتجهنا لإحيائه وحمايته من خلال اللوحة
 

له رؤية فنية استطاع أن يشكلها بعطائه خلال العقود الماضية. عاش النكبة طفلاً، فعاشت في ألوانه، وعاصر بدايات العمل الفني الفلسطيني للنهوض والسير تجاه العودة، فكان من الأوائل في اتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين الذي يرأسه حاليّاً.

من ألوان الكلمات الفلسطينية، وفضاءات الإبداع المحلق رغم الشتات، كان هذا الحوار المتميز مع الفنان التشكيلي عبد المعطي أبو زيد.

«العـودة»: نبدأ من حيفا ومن النكبة التي عايشتها، كيف أثرت في شخصية الفنان عبد المعطي أبو زيد فنًاً وثقافة وحياة؟

حين خرجنا من حيفا، لم أعِ ما كان يجري، فقد انتقلنا من حيفا إلى صيدا لدمشق، واستقر بنا المقام في دمشق، شعرت بالمأساة عندما دخلت المدرسة: أولاً عندما لجأ أهلنا من فلسطين كان عموم اللاجئين في فقر شديد، بالإضافة إلى الضياع وفقدان الهوية وفقدان الذات. كان هناك ضياع شامل وكامل في كل شيء، البعض منهم كان يعيش في الجوامع، كل أربع أسر في بيت واحد.

الضغوط النفسية التي واجهتنا ونحن صغار كانت كبيرة جدا عندما كنا نرى الناس كيف كانوا يعيشون. يتدفأون في برد الشتاء على حطب في (تنكة). كنت كثير التساؤل عندما أشعر بذاتي ونحن على هذا الشكل، لماذا؟

دخلنا المدرسة في البداية، وكل أهل البلد يعيشون برخاء، ونحن الفلسطينيين دخلنا المدرسة وأهلنا لا يمتلكون تكاليف الدراسة، وكثير من المدرّسين أو المسؤولين في المدرسة لم يكن لديهم الوعي بإحساسهم لما نحس ونشعر به. كان يُطلب منا اللباس المدرسي، ولم يكن لدينا مال لنشتريه، ولم نكن نستطيع أن نلبي طلبات المدرسة، وكنا نعيش على معونات وكالة الغوث.

عندما دخلنا بموضوع النكبة وَعينا ذلك من خلال لوحات الفنان إسماعيل شموط، وعندما بدأت أعماله تعكس موضوع النكبة وتعكس موضوع النزوح واللجوء في لوحاته، صار لدي منحى جديد في حياتي. تأثرت بهذه اللوحات تأثراً كبيراً، ولدي القدرة بذاتي على أن أرسم عن قضيتي أكثر مما أرسم عن سواها، ومن هنا بدأت أعود قليلاً قليلاً إلى الذاكرة. أولاً ذاكرة المكان الذي عشته ثم الذاكرة التي رأيتها من خلال اللجوء، وبدأت أستعيد المواقف التي جرت في لجوئنا فأخذت أكرّس هذه الأمور في لوحاتي. ومن وقتها حتى اليوم كانت اللوحة الفلسطينية هي الطاغية على أعمالي.

«العـودة»: من حيفا ونسيم بحرها إلى عبق الياسمين الدمشقي، كيف يعرّف الفنان عبد المعطي أبو زيد المكان في شخصية الرسام؟

طبعاً المكان له تأثير كبير في حياة الإنسان. عندما أعيش في مكان ما وأحبه أصبح من المدافعين عنه. لما أرسمه في لوحتي أدافع عن بلدي حيفا والبحر. صحيح، لا أذكر البحر كثيراً ولكن أكثر ما أذكره هو خروجنا من فلسطين عبر البحر، وكنت أنظر إلى زرقته الجميلة وكنت أتساءل في داخلي لماذا نبتعد عنه؟ لماذا نغادر بلدنا؟ ولهذا كان للبحر تأثير واضح في لوحاتي، وتحديداً اللون الأزرق البحري، وهذا جزء من المكان الذي غادرته. إن اللوحة عندما أعدت صياغتها وأعدت بناءها كان فيها ألوان غير واقعية أضعها في رسومي فكنت عندما أرسم الجدار الذي من المفترض أن يكون لونه بنياً أضعه بالأزرق.

وفي الناحية الذاتية حول علاقتك بالمكان تلاحظها عندما يتغير المكان الذي كان له مكان في ذاكرتك، فعندما كنت أرى البيوت القديمة تتهدم وتنشأ مكانها بنايات عالية كنت أتأثر كثيراً وكنت أشعر بأن البيوت التي تتحادث في ما بينها تبكي على ما يجري.

«العـودة»: ماذا يمكن أن يضيف الفن التشكيلي إلى هذه مفردات اللجوء والخيمة والبندقية؟

في البداية كمجموعة فنانين تشكيليين كنا نعمل بشكل فردي.. كل فنان فلسطيني كان يرسم لوحته بعيداً عن الآخر، وعندما أخذت الحركة السياسية الفلسطينية تتبلور من خلال إنشاء منظمة التحرير وانطلاقة الثورة الفلسطينية وبروز الدور المقاوم، بدأ الفن التشكيلي الفلسطيني يتحول إلى ما يواكب هذه الأحداث بعدما كان الفن التشكيلي الفلسطيني بكائياً يعرض مسيرة النزوح واللجوء.. إلخ، فاستلزم أن يواكب الفن التشكيلي هذه الأحداث وأن يؤرخها وبدأت أبحث عن الفنانين الفلسطينيين. أين يسكنون وأين يرسمون. وعندما اجتمع عدد منهم اقترحنا عمل معرض في صالة الشعب بنقابة الفنون الجميلة أنا وخمسة فنانين وكنا نسميه معرض الفنانين الفلسطينيين. المهم أن نثبت وجودنا على الساحة، ما دام زملاؤنا السوريون يعملون وينشرون نتاجهم فلماذا لا تكون لنا خصوصية في هذا المجال تعبر عن اللجوء والصمود وتعبر عن الخيمة وكيف انطلقنا من خلالها، فتحولت الرموز قليلاً قليلاً باتجاه العمل الثوري الذي أصبح واقعاً. فكان للفن التشكيلي دور مهم في رفع وصياغة الإعلام لهذه الثورة ولهذا الوليد، منظمة التحرير الفلسطينية. وبدأت لوحاتنا تدخل المشروع العربي الثقافي وتدخل في العلاقات الدولية. بدأ الملصق الفلسطيني يأخذ دوراً مهماً وكان البداية للملصق الفلسطيني الذي عبّر عن كل قضايا الأمة وعن كل الهاجس الفلسطيني ووصل لكل بيت فلسطيني، فاستطعنا أن ندخل العالم العربي والغربي من طريق الملصق وبعده باللوحة. ثم اختلف الرمز والعنف اللوني الذي كان في اللوحة وبدأ الوضع يأخذ المنحى العقلاني في التعامل مع اللوحة، لأن الآخر له وجهات نظره وعفويته مع المحافظة على هويتنا الفلسطينية في اللوحة. وهناك منحى آخر سلكه الفن الفلسطيني، وهو الاهتمام بالتراث الفلسطيني الذي كان يسرق على مرأى العالم فاتجه الفن نحو إحياء التراث الفلسطيني في اللوحة التشكيلية.

«العـودة»: هل تعتقد أن الفن التشكيلي يمثّل معادلاً موضوعياً في عملية الصراع الفلسطيني الصهيوني؟

نعم، فبيكاسو على سبيل المثال صنع بلوحته ثورة، فاللوحة التشكيلية مهمة والأهم من ذلك يجب على الفنان أن يعرف كيف يتعامل مع اللوحة حتى يعكس وحتى يحرض وحتى ويؤرخ، ودائماً كان هناك استشراف للمستقبل في اللوحة الفلسطينية. فنحن بشرنا بالانتفاضة الفلسطينية في لوحاتنا وفعلاً انطلقت ثورة الحجر. من هنا نقول إن الفنان التشكيلي أعمق من الكلمة لأن الكلمة نخبوية والفن بصري يصل إلى كل الناس عبر العرض والملصق والبطاقة، ولهذا فالصورة أسرع في الوصول للناس، ومنها كان علينا عبء أكبر في إيصال الفكرة.

ومن هنا أيضاً كانت هناك فكرة إنشاء الاتحاد العام للفنانين التشكيليين، وذلك حين كان كل الفنانين الفلسطينيين في سوريا وفلسطين ولبنان والكويت وخارج الوطن العربي يؤلفون مجموعات لها ثقل فني في الساحة الفلسطينية والعربية. كذلك إن الفنانين التعبيريين أخذوا في التحرك بعد فترة النهوض الثوري، فاجتمعنا كلنا وشكلنا الكيان الجديد (الاتحاد العام للفنانين التشكيليين) وله عدة فروع منها في سورية ولبنان والأرض المحتلة واليونان وأهم المعارض الفلسطينية التي أقيمت في أوروبا كانت منبثقة من هذا الاتحاد وزرنا أوروبا بلداً بلداً وأمريكا، وبالتالي أوصلنا اللوحة التشكيلية الفلسطينية إلى جميع أنحاء العالم.

«العـودة»: هل تعتقد أن طبيعة المرحلة هي التي ساهمت بمعرفة هذه الرسومات أم أن اللوحة تفرض نفسها أيّاً تكون المرحلة؟

المرحلة لها جزء من ذلك، ولكن قدرة الفنان على الوصول للناس أجده الأهم. يمكن الفنان أن يرسم لوحة وتنسى بعد أيام، ولكن هناك عدد من اللوحات لها ديمومة، وهذا المهم في اللوحة، أن تكون متجددة وتعيش المرحلة التي تعيش فيها. أما إذا رسمت لوحة تجارية (ترسم خطين وتبيعها) فأي ديمومة ستكسبها هذه اللوحة. بالنسبة إليّ عندي مبدأ أنه لا أبيع لوحاتي لأن قيمتها في نفسي تتجاوز أي قيمة مادية يمكن أن تدفع لي مقابلها.

«العـودة»: عملت مدرّساً لفترة طويلة، فهل أثّر التدريس على مسيرتك الفنية؟

أنا لم أكن أدرس فقط، بل كنت مكتشفاً للمواهب الفنية. الآن نصف أعضاء اتحاد الفنانين التشكيليين هم من طلابي، وهذا شيء أفخر به ومعظم هؤلاء تابعتهم في جميع مراحلهم الدراسية حتى نجاحهم في البكالوريا وشجعتهم وشجعت أهلهم على تبني إبداعهم، ومنهم اليوم من أخذ الدكتوراه في الفنون. إن الطلاب الذين ارتبطوا فنيّاً معي في المرحلة الإعدادية هم الآن زملائي في الاتحاد، وهذا فعلاً فخر كبير لي، أن هؤلاء الزملاء الذين بدأت معهم منذ فترة الدراسة هم الآن فنانون مرموقون.

«العـودة»: كيف يمكن الفن التشكيلي أن يحرّك الجماهير الفلسطينية على العودة؟

تشكيلاتنا ورموزنا في اللوحة تشعر بأننا نطرح هذا الموضوع دائماً. وسأتكلم على تجربتي في هذا الخصوص، حيث تجربة الحمام الزاجل التي أطرحها في لوحاتي. يقولون لي إنها حمامة السلام وأنا أقول لهم إنني أحب الحرية. هذا الحمام أينما أخذته يعود إلى بيته فأخذت هذا الرمز كي أقول أنا عائد مثل الحمامة وهذه بعض الرموز التي أطرحها في لوحاتي عن العودة.

الفن بالأساس تحريضي، فعندما نساهم مع مجموعة مثقفين في طرح أفكار ومفاهيم مدروسة ونستطيع أن نوصلها ويستوعبها الناس بكل بساطة، حينها فقط نكون قد حرّكنا الجماهير تجاه العودة.