مجلة العودة

مقابلة ثقافية: الشاعر صالح هوّاري: النَّكبة حُفرت في وجداننا - وسام الباش

الشاعر صالح هوّاري: النَّكبة حُفرت في وجداننا
خيوطي الغنائية تطاردني في كل قصيدة والجوائز لا قيمة لها عندي
 

وسام الباش

في طريقنا إلى لقاء الشاعر صالح هواري كنا نحمل إليه مفاتيح الأسئلة لخزانة الذكريات والإبداع التي لديه، لكنه كان يحمل بقصائده مفاتيح الوطن ويحفظ بوجدانه حكايات الاشتياق ووجدنا كيف ظلَّ برتقالُه في بلدته «سمخ» قناديل تضيء سنوات الشتات.

«العودة»: 63 عاماً مرَّت كانت فيها أحلام الطفل صالح هواري تتعفر في طريق الشتات. كيف تتذكر هذه المحطة؟

ذكرتني بهذه الأيام الصعبة المرّة جداً عندما خرجت من سمخ وعمري 10 سنوات وكنت خلالها كأنني خيط من خيوط التغريبة الفلسطينية أحمل مخدة في يدي وصينية، وكل فرد من أفراد العائلة يحمل غرضاً من أغراض البيت الذي هُجرنا منه رغماً عنا. وتحت القصف الذي انهار على بلدتي سمخ كانوا يقصفون المدينة على نحو لا يمكن تصوره، فالقنابل تسقط على بيوت الآمنين والجرحى والشهداء بأعداد لا يمكن حصرها. ودأب الصهاينة على ذلك لأنهم خططوا لاستخدام أسلوب الرعب حتى يهجّروا السكان عن أرضهم. ومذبحة دير ياسين أكبر شاهد على استخدامهم أسلوب الترهيب ليرحل السكان خوفاً على أبنائهم ونسائهم. وعلى الرغم من كل ذلك كنت أشهد بأم عيني كيف كان أهل القرية يتصدون بالبنادق البسيطة, وكنت أذهب مع والدي لألقن البندقية (فَشَكة فَشَكة).

النكبة هي سهم أسود انغرس في خاصرتي وذاكرتي ولا يمكن أن يغيب أبداً، وعندما أتذكر قريتي أستعيد شريط الذكريات في سمخ تخضب الدموع وسادتي وأستعرض كل مكان ذهبت إليه في القرية وكل مكان لعبت فيه وخاصة بحيرة طبرية التي كنت أسبح فيها. النَّكبة حُفرت في وجداننا ولن تزول أبداً إلا بالعودة إلى فلسطين إن شاء الله.

«العودة»: كيف كانت مسيرتك بعد الخروج من فلسطين؟

لما تشردنا من فلسطين نزلنا في بلدة اسمها المخيبة بجانب الحمة السورية، وكان والدي صياداً للسمك قرب نهر اليرموك، فهنالك كنت أذهب معه لصيد السمك, وبعدها انتقلنا إلى مخيم درعا وسكنا كغيرنا في الخيام وبعد مدة بنينا غرفة صغيرة وما لبثنا أن انتقلنا إلى مدينة حماة، لأن والدي قصد نهر العاصي أيضاً لممارسة مهنة الصيد وأنا أحب هذه المهنة كثيراً. بعدها عدنا إلى دمشق في مخيم الأليانس لنسكن مرة أخرى في الخيام، لننتقل بعدها إلى مخيم اليرموك ونستقر به حيث شهدت فورة الشباب في هذا المخيم. وكتبت في هذا المخيم أجمل القصائد التي أعتز بها والأناشيد القومية المعروفة ومنها ما كتبته وبالعزم وبالإصرار وبالثبات وبقوة الإيمان وبالسلاح، من موتنا ستولد الحياة.

«العودة»: كيف تشكلت بداياتك الأدبية واهتماماتك الشعرية؟ وما هي أهم هذه التشكلات حتى نيلك إجازة الليسانس في اللغة العربية؟

أذكر أنني عندما درست المرحلة الابتدائية كنت موهوباً بكتابة الإنشاء، وعندما أدخل إلى الصف يقول لي المعلم أخرج موضوعك يا هواري واقرأه، لأنه كان موضوعاً متميزاً. فقد كنت أُعنى دائماً بالصور الشعرية منذ تفتح طفولتي فوجدت في نفسي هذه الموهبة ونمت سنة بعد سنة إلى أن أصبحت قادراً على كتابة القصيدة، أول ما بدأت كانت القصيدة قصيدة عمودية ولم أكن أعرف الأوزان أبداً، وأول قصيدة كانت قصيدة بورسعيد كتبتها عام 1956 ولم أعلم أنها موزونة على البحر البسيط وعندما درست مادة العروض لاحقاً وزنت القصيدة وإذا بها على البحر البسيط وهذا يعني أن بذور الشعر تفتحت من صغري وصرت أنشط في الصحف والمجلات السورية وهكذا.

وعندما نلت الشهادة الثانوية انتسبت إلى جامعة دمشق في فرعين: الحقوق والأدب العربي وحملت إجازتين.

«العودة»: كتبتَ للأطفال منذ وقت مبكر في أعمالك «عصافير بلادي تنادي تغني قتلوا الحمام».. لماذا؟

لأنني أول ما عملت في حقل التعليم درّست الأطفال وسبرت أغوار هؤلاء الأطفال وتعاملت معهم، فأدركْتُ ماذا يريدون. وفي الوقت الذي كتبت فيه القصيدة للكبار وجدت في نفسي حافزاً على كتابة قصيدة الطفل لأنها تتكئ على الغنائية. وأنا خيوطي الغنائية تطاردني في كل قصيدة فكتبت قصيدة الأطفال وصدر لي عدة مجموعات وكتبت مسرحية الطفل وأخرجت عدداً من المسرحيات في مهرجان الطلائع في سورية وأكتب أيضاً أغنيات للطفل.

«العودة»: عملتَ مدرساً في وكالة الغوث، هل استطعت أن توصل الرسالة الثقافية والوطنية من ذلك المنبر؟

طبعاً، وكنت مشتعلاً ولا أزال مشتعلاً بالوطنية لأن فلسطين حبيبتي الوحيدة التي لا يمكن أن تغادر قلبي وروحي. ففي وكالة الغوث عندما درست هذه السنوات كنت أحرص كثيراً على غرس الروح الوطنية في طلابي. فكنت أعلمهم الأناشيد من دون أن يكون هناك حصة للموسيقى وكنت حريصاً على أن لا يمر يوم واحد إلا وتكون فلسطين في قلب كل طالب من طلاب المدرسة التي أدرس فيها. وكان الطلاب يحبونني لأنني كنت دائما أحدثهم عن فلسطين، وكنت دائماً أحكي لهم عن طفولتي وأن يتمثلوها لأنها طفولة عانت، وهذه المعاناة هي وراء كل إبداع في حياتي.

«العودة»: كيف تفسر اهتمام الشعب الفلسطيني بالعلم والتعلم رغم ما تعرض له من نكبات وتهجير؟

أنت ترى كيف شعبنا العربي الفلسطيني لم ينفلت خيطه القومي والاجتماعي سدى، بل انتظم في سلك التعليم وفي الأمور التي لها صلة بالقضية. يعني الطفل الفلسطيني يتعلم في الشتات ويواصل تعلمه حتى يتخرج من الجامعة. يعني ليس هنالك أمر يجعل الطفل الفلسطيني يتسيب هنا وهنا، بل انتظم وأثبتت الأيام أن هناك نسبة كبيرة من المتعلمين في صفوف الشعب الفلسطيني من معلمين أطباء مهندسين.. الخ، وهذا يدل على أن العلم هو السلاح الذي يجب أن نسخره من أجل قضيتنا كما سخّره عدونا. وسنحارب الصهاينة بالعلم ونحن مستمرون في مسيرتنا العلمية.

إنَّ المعاناة هي التي جعلت الفلسطيني يتشبث بأهداب العلم، لأن العلم يؤمن حياته وبالرغم من أن المخيمات بوحلها وفقرها إلا أن هذا الفقر صنع إنساناً فلسطينياً مناضلاً واستطاع أن يثبت انه إنسان مبدع في كل المجالات ويشهد العالم كله أن الشعب الفلسطيني شعب خلاق.

«العودة»: الزيتون، البرتقال، أيوب الكنعاني، المواويل.. وغيرها كلها مفردات في عناوين لدواوينك الشعرية تشير إلى الوطن. ألا يزال الوطن يعيش في داخلك وشعرك؟

يعيش حتى الاختناق بسبب طول الغياب. إنَّ هذه الأشياء التي أعيشها من كثرة ما أحملها تصل إلى قمة تفكيري، فأكاد أختنق ولا أستطيع أن أستوعب وتشكل طوفاناً عليّ. لقد كنا نصنع من البرتقال قناديل في طبريا حيث نجوفه ونفرغ القشرة من محتواها ونضعها في الشمس ليومين ثم نصنع من القشرة شبابيك نضع فيها شمعاً لتصبح قنديلاً والله كأن قلبي يدمع الآن. أما الزيتون فله في نفسي الكثير بالرغم من أن سمخ لا زيتون فيها إلا في بعض البيوت ودارنا كان فيها شجرة زيتون وقامتها الفارعة لا تغيب عن مخيلتي. إن أكثر ما يخطر ببالي من طبريا سمك المشط الذي كان يسبح معنا ويقفز معنا في البحيرة عندما كنا نسبح كأننا أليفان.

«العودة»: فزت بجوائز شعرية عديدة كانت آخرها في 2009 هل تعتقد أن الجوائز مهمة لتفعيل الحراك الشعري؟

الجوائز ليست لها قيمة عندي ولا تعطي مؤشراً على أن صاحب هذه الجائزة هي الأفضل في ميدان من الميادين. أنا أحبذ الجوائز للشعراء الشباب. لقد خضت هذا المضمار عندما كنت شاباً. أما المسابقة الأخيرة فخضتها لأنها تخص مدينة القدس ولي عدة قصائد عنها وكنت أظن أنَّ ما أرسلته للمسابقة سيُطبع. لكنَّها دمجت بين المجالات المتعددة، وأنا أنتقد المسابقات التي تدمج بين القصة والشعر والرواية.

«العودة»: تقول في قصيدة لك:

غريبانِ نحنُ‏

ويبقى الجليلُ لنا قِبلةً‏

كيف ننسى الجليلا!!‏

أنا غيمةٌ من ربا طبريَّا

وأنتِ الهوى الصفديُّ الذي‏

يقهرُ المستحيلا‏

كيف يمكن القصيدة أن تجمع بين حبيبتين؟ ولماذا حظيت فلسطين بقصائد العاشق في الأشعار؟

إنَّ الشاعر الذي يحمل أفكاراً حقيقية ويريد أن يبشر بها تكون المرأة هي الفارسة الوحيدة التي يرافقها في مضمار الساحة الأدبية وأنا فلسطين معشوقتي فعندما أكتب مخاطباً «أنتِ» فهذا يعني فلسطين ولو كنت أعني هند أو سلوى. لقد امتزجت عندي المرأتان: الأولى فلسطين التي تتناسل كل نهار بمقاومتها والمرأة التي تتراءى لي في خيالي وفي واقعي. الحب هو الذي يفجر بركان القصيدة عندي والشاعر الذي يتوهم أنه يحب لا يكتب قصيدة حقيقية.

«العودة»: ماذا بعد المخيم والشتات وما موقف الشاعر من التبشير بالعودة والانتصار؟

إنَّ لي قاموسي اللغوي الخاص بي، ولكن إذا بحثت في هذا القاموس تجد مفردات العودة مليئة ومتناثرة في هذا القاموس، ولكن أباشر باستخدامها، أحرص دائماً على الصورة الشعرية، وهي التي تعطيني الساحة التعبيرية التي أطمح إلى الوصول إليها. العودة ممزوجة بكل شيء في حياتي ولا أستطيع التخلي عنها. ربما كانت بعض الكلمات تتكرر في عدة قصائد وهذا إلحاح على العودة، فالمفردة إذا كررت فهذا يعني أنك تلحّ عليها.

«العودة»: كلمة أخيرة؟

أحيي القائمين على مجلة «العودة» لأنها لا تهدر وقتها هدراً، بل تجلب الكنوز القومية والإبداعية إليها لتتصدر صفحاتها. لقد قرأتها وتعرفت إلى زواياها ونحن بحاجة إلى مزيد من هذه الأعداد وتطويرها أكثر فأكثر.♦