مجلة العودة

مقابلة ثقافية: الشاعر عـيسى عـدويّ: ليس هنالك مشهد ثقافي فلسطيني واحد

الشاعر «الزكراوي» عـيسى عـدويّ
ليس هنالك مشهد ثقافي فلسطيني واحد والقصيدة جسر فعلي للعــودة   
  
الشاعر الفلسطيني عيسى عدوي الذي هاجر من بيته وقريته ووطنه، جعل من قصائده بيوتاً للحنين، فكانت قصائده بيانات شوق و«طابو» ثقافياً خاصاً به، يصدح للوطن ويعلن براءته ممن يتاجرون باسمه. عرفنا ولعه بتفاصيل الحكاية الفلسطينية ويوميات العاشق المشتاق إلى قريته «زكريا»، فكان شاعر القرية، وكانت هذه الوقفات معه..
 

«العودة»: رأينا قرية زكريا في عيون أشعارك، وتمنيت أن تشاهدها في عيون فراشة مسافرة، فكيف تقرأ هذه المفارقة؟

قرية زكريا وصورتها التي انطبعت في الذهن عند الزيارة الأولى لم تفارق الخيال أبداً، بل ترسّخت وتراكمت فوق طبقات من الصور الجوية الخيالية التي سكنت الذاكرة منذ الطفولة وهي تستمع لوصف الوالد رحمه الله، وقد كان يتذكرها شجرة شجرة وحجراً حجراً، ثم بعد


 

ذلك تجسمت بالأبعاد الثلاثية تنقلها عيون الفراش المسافر والسنونو العابر الذي لا يعترف بأسوار الفصل ولا بحدود مصطنعة فرضها المحتل. لذلك كانت الفراشة مرسالي اليومي الذي يخبرني بكل التغيرات التي تحدث في تلك الربوع لحظة بلحظة.

 
 
«العودة»: تحولت قريتك لدى القراء من ذاكرة بصرية إلى لوحة شعرية. حدثنا عن هذه التجربة؟

لقد كانت زكريا دائماً في مخيلتي صورة واضحة التفاصيل، فهي تقع في بقعة من أجمل بقاع الأرض وأجمل بقاع فلسطين، إن وصلتها عن طريق باب الواد حسبت نفسك في جبال سويسرا، وإن جئتها قادماً من بيت لحم تخيلت نفسك في سهل كوسوفو، وإن جئتها من منطقة الخليل تمتعت بأجمل مفاجأة في حياتك. عندما تلتقي بأول شجرة تين تنضج في فلسطين وتشمّ رائحة أجنادين.

«العودة»: هل تستطيع القصيدة أن تبني جسراً للعودة؟

القصيدة هي جسر فعليّ للعودة، تعبر من خلاله قوافل الشوق والحنين إلى تلك الربوع التي تسكن الحلم ويسكنها الوعد الصادق بأن النصر لا بدّ آتٍ مهما طال الزمن. القصيدة باب الأمل المفتوح على الغد وجرح اللاجئ الذي ما زال ينزف بغزارة، هي بسمة الطفل الذاهب إلى مدرسة المخيم عندما يكتب اسم قريته على «السبّورة». القصيدة هي لحظة الشموخ التي تعتري الفلسطيني عندما تسأله «من أين أنت»؟ فتسابقه لتصرخ «أنا فلسطيني».

«العودة»: تحضر طبيعة فلسطين في قصائدك في صور شعرية متعددة، كيف تفسر هذا الحضور؟

فلسطين هي الحبيبة الأولى، عشقتها قبل أن أبلغ الحلم. فلها من الهوى ما لا تحلم به حبيبة أخرى. تجوّلت في ربوعها وتعرفتُ إلى وديانها وجبالها. عشقتُ تاريخها فحفظتُه، وتتبعت آثارها ورجالها فأحببتُهم. فلسطين هي الجغرافيا يا صديقي، وشعبها الصامد المرابط عبر آلاف السنين على كل تلةٍ له تاريخ وملحمة فداء. وتحت كل زيتونةٍ كتاب مفتوح لقصص البطولة والتضحية. وفي كل نبتة ميرمية ما ينعش الروح. هل تعلم أنَّ فلسطين لا يجوع فيها إنسان تحت أيِّ ظرف. فإن لم يجد حبة لوز وجد بيت خبيزة وعنقود عنب حفظته دالية عتيقة على رسمٍ منسيٍّ في خربةٍ كانت يوماً عامرة.

«العودة»: في مجموعتك «أحلام فراشة» تدرَّج خطابك مع «الغائبة» حتى عرفنا أنها فلسطين، ما سرّ كل هذا الوله؟

لا سر في ذلك. فهذا هو حقيقة شعوري تجاه الحبيبة الأولى تتجسد فيها الآمال والأحلام. فلسطين هي سر وجود هذا الكائن الذي يتحرك في داخلي. جبلت من ترابها وترعرت في سهولها وجبالها. أحسست ببردها وبحرها وتمتعت بظل زيتونها وتينها. وتذوقت أطيب أصناف عنبها من الدبوقي إلى الجندلي والحمداني وتينها السوادي والبياضي والسباعي الذي لا يوجد إلا في فلسطين. بل أكاد أزعم أنني حملتها في كل مكان عشت فيه، فلم تكن يوماً غائبة في صحوتي ولا في منامي.

«العودة»: في قصيدة «صبّي دموعك في دمي» من مجموعة «أحلام فراشة»، تتحدث بلوعة الغياب والغائبين، فلمن كتبت هذه التباريح؟

لقد تغربت عن وطني ومسقط رأسي منذ ما يزيد على أربعين عاماً. فقد غادرته فتياً في التاسعة عشرة أحمل آمالاً وأحلاماً تحقق بعضها، وما زلت أنتظر تحقق الباقي. فلله الحمد والمنّة على ما أعطى. ففي كل لحظة من لحظات الكتابة تتسابق الصور أمام عيني حاملة تفاصيل كل لحظة عشتها على ترابه الطهور. فما كُتب لأمي وما كتبتُ لحبيبتي وما كتبتُ لقريتي تجسد في ما كتبت لفلسطين ورمزها في ذاكرتي هي زكريا. حيث تجسد التاريخ والجغرافيا ونبض الحياة الموثق لعائلتي منذ ما ينيف على 800 عام من لحظة إعادة تحرير فلسطين من الغزو الصليبي وعودة أجدادي إلى بيوتهم في تلك الربوع الطاهرة، في كتائب صلاح الدين رحمه الله. فقد ضمَّخ أجدادهم ترابها في أجنادين. وأبناؤهم ما زالوا محافظين على هذا التراث العريق من نصرة الدين والوطن، يتذكرون لون عمامة خالد يوم اقتحم اليرموك..

«العودة»: كيف تقرأ الحضور الشعري الفلسطيني في الشتات؟

للفلسطيني حضور واضح وجلي أينما كان، وفي جميع مناحي حياة المجتمع الذي يعيش فيه، وحسب خبرتي الشخصية ومعرفتي، فهم رافد مهم من روافد الحياة الأدبية والثقافية

في كثير من البلدان التي يقيمون فيها، وفي كل المنتديات الشعرية والأدبية الراقية لهم حضورهم المميز، وفي كل مواقع نصرة فلسطين تجدهم من السباقين. ولكن ينقصهم توحيد الجهد، فقد فرقتهم الحزبية البغيضة فانقادوا لها.

«العودة»: هل تعتقد أنهم يصنعون حراكاً في الساحات الأدبية التي يقيمون فيها؟

ليس هناك حراك ثقافي حقيقي في العالم العربي عموماً، بل هي جزر معزولة في محيط الثقافة العالمية، ما زلنا متخلفين عن متابعة الحركات الثقافية العالمية في القارات الأخرى. ونعيش على فتات الآخرين، بل نخوض معاركهم التي انتهت منذ زمن. أما إن كنت تسمي هذا الوضع الذي نعيش بالحراك الثقافي. فللمغتربين الفلسطينيين منه نصيب الملعقة التي تحرك السكر في فنجان القهوة. ولكن بعض الساحات الثقافية العربية تُفضِّل القهوة السادة.

«العودة»: ما هو السبب وراء غياب أدباء عن المشهد الثقافي الفلسطيني؟

ليس هنالك مشهد ثقافي فلسطيني واحد حتى نقول إن فلاناً غائب عنه والآخرون حاضرون فيه، بل هو انقسام فعلي وجذري يعاني منه المجتمع الفلسطيني نتيجة للانقسام السياسي، ما جعلنا نشهد ملامح تشكل مشاهد ثقافية متوازية ومنفصلة عمودياً تختلف في المرجعية والنظرة إلى الواقع بل وإلى المستقبل، ما لا يبشر بخير. ففي أسوأ أوضاع الشعب الفلسطيني كان هناك مشهد فلسطيني واضح وصريح في دعمه للمقاومة والمطالبة بحق العودة. لذا فإنني لست متفائلاً بما أرى وأقرأ وأشاهد في وسائل الإعلام الفلسطينية التي غلَّبت نظرتها الفصائلية على النظرة الشاملة لفلسطين شعباً وقضية وثقافة، وتنكرت لكل المخزون الثقافي الفلسطيني الذي ميز هذا الشعب المناضل.

«العودة»: هل تعتقد أن الإنسان الشاعر يمكن أن يقبل «مفاوضات» تبعده عن قريته؟ وهل يفترض أن يختلف الشاعر عن السياسي؟

الشاعر والسياسي يشتركان في صياغة الحلم، لكن الشاعر هو الوحيد الذي يتابع الحلم حتى النهاية. أما السياسي فهو قصير النفس لا يستطيع أن يواصل الحلم، بل قد يتحول عنده إلى كابوس يقلقة فيتمنى أنه لم يعرف هذا الحلم أبداً.

الشاعر إنسان يعشق الحياة والحرية. فهل يفاوض إنسان على حقه في الحياة والحرية. ومع من؟ الحياة حق أعطاه الله للبشر؛ كافرهم ومؤمنهم كبيرهم وصغيرهم. وخلق الناس أحراراً. فلسطين هي الوطن. وقريتي زكريا هي حصتي من هذا الوطن. فهل سمعت أن شعباً من شعوب الأرض قاطبة تنازل عن حقه في وطنه. ووقع للمحتل صك ملكية ذلك الوطن. أنا شخصياً لم أسمع، وبالتأكيد لن أكون الذي يفعل ذلك.

صحيح أن فلسطين بلد محتل من قوة غاشمة احتلتنا بقوة السلاح في لحظة ضعف من هذه الأمة. فبعد احتلال كامل فلسطين لا مكان لمفردات مثل الضفة وغزة في قاموسي. ففلسطين كلها محتلة، ويجب أن تتحرر كلها. وما دامت فلسطين لم تتحرر بعد، فليفاوض من يفاوض، ولكنني شخصياً لم ولن أفوض أحداً، كائناً من كان أن يفاوض على حقي في العودة إلى قريتي زكريا.

«العودة»: عرفك الجمهور من خلال نشاطك الثقافي على «الإنترنت»، فيما قلّ حضورك في المجلات والصحف المطبوعة، هل أنت راضٍ عن حضورك الأدبي؟

الصحف والمجلات المطبوعة شيء جميل في توثيق الإبداع الشعري والأدبي، لكن الشبكة العنكبوتية هي الساحة التي تحتضن الإبداع والمبدعين بهامش حرية لا تعرفه الصحف ولا المجلات؛ لأن أغلبيتها مسيسة وفصائلية وتحكمها الشللية والمعرفة الشخصية. فلا توجد على مستوى الوطن العربي صحف أو مجلات مستقلة تعنى بالشعر والأدب تهتم بالكتاب المغمورين أو الناشئين وتمنحهم فرصة النشر والوصول إلى القراء. على العكس من الشبكة العنكبوتية التي لا تسأل الشاعر أو المبدع عن انتمائه السياسي قبل أن تنشر له نصاً، لذلك ما زلت أنشر في موقعي مجلة أقلامنا الثقافية.

«العودة»: هناك عدد من الأعمال المخطوطة لديك، فهل يمكن أن تطلع القراء على جزء من مشاريعك القادمة؟

نعم عندي مخطوطات لدواوين شعرية بعضها قديم وبعضها جديد لم يُنشر. تتنوع بين شعر التفعيلة والشعر العمودي والشعر الشعبي. أما مشروعي المستقبلي فهو محاولة إنشاء منبر للشعر الشعبي الفلسطيني، الذي لم ينل حقه من الانتشار في الوطن العربي مقارنةً بالشعر النبطي في دول الخليج أو الزجل اللبناني والسوري، علماً بأن مخزون هذا الشعب من تراثه العريق ومن مواهب شعرائه الرائعين يمثّل رافداً مهماً من الشعر الشعبي العربي، وخصوصاً أنه واكب تاريخ قضية فلسطين ونضال شعبها وحياته اليومية، وعبّر عنها أجمل تعبير.

«العودة»: ماذا تقول لقراء مجلة العودة.. شعراً؟

سأقول لهم في هذه الأيام الفضيلة وبمناسبة اقتراب عيد الأضحى المبارك، كل عام وأنتم إلى فلسطين أقرب، وأعيد نشر أبيات قلتها في العيد. فحالي لم تتغير عن اللحظة التي قلتها فيها:

قالوا أتاك العيدُ قُلت هلا! وهل

مثلي لهُ بين الخلائق عيدُ

يزورُ طرف العيد حين يمُر بي

ويلوحُ في العينين منه جُحُود

ماذا يُريد العيد حين يَزورني

ويَغيب طول العام ثم يَعود

فالعيد فرحتُه بلمّة أهلِه

وأنا غريبُ الدار ثم وحيد

يا عيد عدتَ وما لديك جَديدُ

فعَلام تنكأ جُرحنا وتُعيد

هل مرّ يوم دون ذكر مصيبة

وقعت وما زال الرصيدُ يزيد

قُل لي بربك كيف تضحك مُهجتي

للعيد مهما زينته ورود♦