مجلة العودة

اشتعالات الحنين في حضرة فلسطين

اشتعالات الحنين في حضرة فلسطين

 

ياسـر عـلي                  

ليست المرة الأولى التي أزور فيها حدود الوطن مع لبنان، ولكنني أجد لكل زيارة طعماً جديداً، تخيم المشاعر فوق مئات القادمين في رحلة واحدة، هذه المرة كانت بضيافة المنظمة الفلسطينية لحق العودة «ثابت».

ما إن وصلت الحافلات إلى حدود فلسطين، حتى فاضت المشاعر. فلسطين خضراء زاهية تتلألأ على مرمى خطوة، ولا نستطيع الدخول إليها، «قريبةٌ على بُعْدٍ، بعيدةٌ على قُربٍ»، بدأت التعليقات بين المسنين «يعني لو جبنا معنا البُقجة، ودخلنا وما سألنا ما كانت تحققت العودة.. الله كريم! خللي هالزيارة «بروفة» للعودة الحقيقية».

في لحظة اشتعال حرائق الحنين، كان كهل أبيض اللحية، يلقي شعراً، مسنّون ينادون الأرض والوطن والقرية وموسم الحصاد.. فتيات تفيض دموعهن، أطفال يحملون الرايات ويهتفون، شبان ينشدون ويكبّرون. بعض المسنّين يرفعون المفاتيح والكواشين.

طفل يسأل أباه فأخذ يشرح له: «كل ما خلف السلك الشائك فلسطين، هناك أرضنا، والجنود الذين تراهم، أباؤهم طردوا آباءنا من ديارنا، تلك فلسطين، احفظ في ذاكرتك، لنا فيها أرض ودار وأهل صامدون هناك وينتظروننا كي نعود». وأشار الأب إلى الجنود واحداً واحداً بإصبعه، هذا وذاك وذلك.. ويبدو أنّ هذا المشهد تكرّر في الرحلة التي ضمت خمسين مسناً وثلاثين طفلاً، وكان هدفها تسليم أجيال العودة الأمانة.. سأل الطفل أباه: «لماذا يخاف الجنود منا؟».. لم يعرف الطفل أنّ ما قام به أفراد الرحلة هو أكثر ما يخيف العدو، إنهم زرعوا أمانة العودة والتحرير في نفوس الأطفال، وأنّ ستين عاماً من القتال لن تنتهي بانتهاء أجيال النكبة والثورة، بل إن هذه الأجيال ستواصل المعركة ستين سنة أخرى، وإذا كان بوش قد وعدهم بستين سنة أخرى، فها نحن نزرع حب فلسطين في نفوس أطفالنا، ونعلّمهم أنهم سيقاتلون هؤلاء الجنود يوماً ما، حتى لو مات جيل «اللجأة».

جيل «اللجأة»؟! سؤال يفرق به كبير الرحلة (83 سنة) بين أعمار المشاركين. يقول رجل في الرحلة لطفل: «جيلنا وجيلكم مواليد اللجأة! الله يطعمنا أولاد يكونوا مواليد «العودة» آمين!».

شاعر هاجر من مخيمه إلى أوروبا منذ 21 سنة، اغتنم فرصة وجوده في لبنان وشارك في الرحلة، خنقته العبرات أكثر من مرة، واعترف بأن المشاعر أكبر من أن تضمها قصيدة، «مهما قلنا فلن نَفِيَ هذه الحبيبة السجينة حقها!»..

في مارون الراس، حيث النقطة اللبنانية الأكثر إطلالاً على فلسطين، تظهر مساحات شاسعة، تسابق المسنون ليخبرونا: هنا ديشوم، سهل الحولة، صالحة، فارا، علما، الخالصة، الجش، قديثا.. وذاك سهل صفد وجبل كذا ووادي كذا.. و..

هنا وقف أكثر من مؤلف لكتب عن القرى الفلسطينية يحكون عن القرى التي تبدو، ويشرحون عنها، وكانت لحظات مؤثرة (أحدهم هدم العدو قريته ولم يبقَ منها إلا شجرة كبيرة، دلّنا على الشجرة: هناك قريتنا).. الجميع يقف على جبل لبناني عالٍ يطلّ على سهول خضراء زاهية لا ينقصها سوى أن نعانقها وتعانقنا..

أحد كبار السن، افترش الأرض ليصلي وتوجّه بديهياً باتجاه فلسطين، فهو يصلي منذ ستين عاماً باتجاهها حتى تماهت مع القبلة في وجدانه، فتوجه من غير أن ينتبه إلى انحراف الحدود عما تعوّد عليه في مخيمه.. ذكّرني هذا الرجل بذلك اللاجئ الذي بقي يصلي جَمْعاً وقصراً حتى وافته المنيّة في أواسط السبعينيات في مخيم برج البراجنة ببيروت.

ودّعنا الحدود وودّعنا بعضنا داعين بالعودة للجميع، فقال أحدهم: إن شاء الله في الزيارة القادمة نأتي من الجانب الآخر لنزور حدود لبنان! وأمّن السامعون. ثم غادرنا وكلنا واثقون بأننا للعودة أقرب..

منذ ثماني سنوات كتبت عند الحدود:

وقفتُ على الحدودِ أردُّ عنّي          دموعَ فراقِ حقٍّ ضاعَ منّي

هذه المرة كتبتُ رداً عليّ:

وقفتُ على الحدود أقولُ إني          سأُرْجِعها، وليس يخيبُ ظنّي