مجلة العودة

جسر العودة: استشهاد الكرمل الفلسطيني - ياسر علي

استشهاد الكرمل الفلسطيني

ياسر علي

تناقضت المشاعر – مثل مواقف الدول- إزاء منظر احتراق جبل الكرمل أمام عدسات الفضائيات وعجز قوى الأمر الواقع عن القيام بأي عمل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

تقتضي مفردة «إنقاذ» انتقال المنقَذ من حالة إلى حالة. فهل تغيرت حالة جبل الكرمل؟ كان تحت الاحتلال باخضراره، ورزح تحت الاحتلال وناره، وعاد تحت الاحتلال ورماده. إذن العملية ليست إنقاذاً، فما هي إذن؟

اقتحمت موقع الفايسبوك الاجتماعي الكثير من التعليقات المتضامنة في حزنها مع الكرمل وأهله وجيرانه، والتعليقات الفرحة المتشفية بالاحتلال وعجزه. واستذكر أحد الأعضاء شعر أبي سلمى «ونجوم الليل ماعادت على الكرمل تسهر».. وحكت إحدى جارات الكرمل هجرة العصافير من أشجاره. وبدأت الحوارات المؤثرة تجاه هذا الجبل الجميل. وقد سجلت للقارئ العزيز هذا الحوار السريع الدائر بين كرمليّ ولاجئ من أعضاء الشبكة الاجتماعية المذكورة:

- سلامي للكرمل الحبيب.

• يحترق.. وتحترق أشجاره وعصافيره وأحلامه

- لن تحترق عصافيره.. تهاجر ولا تحترق.

• تتمسك بأرضها ولا تهاجر.. إنها أهل الأرض.. هل ينتحر الكرمل لتهجره البلابل؟

- إنه لا ينتحر.. الفرق كبير بين الانتحار والاستشهاد.

• لكنه أحرق نفسه، وتحول اخضراره إلى رماد.

- ما أجمل الاستشهاد حين يحرق السجان.. أية تراجيديا هذه التي تجري؟

• أنت. أنا. وكل من يعشق الكرمل، نرى سجاننا يحترق بقلبنا العاشق.

- أنا بعيد عنه ومحروم منه منذ 63 سنة. أعرف اللجوء ومرارته، لكني قد لا أعرف الاحتلال وظلمه، الاحتلال الذي يضطهدكم يضطهده، ربما لم يعد يطيق وطأة الاحتلال.

• إنه يفدينا بأشجاره وأسراره.

- إنه تجلي الألم والاعتزاز وحب الحرية.

• كلنا نقف مشدوهين أمام هذا المشهد، أب يحترق لينقذ صغاره.

- لعله احترق قبل هذا بلهيب الشوق للغائبين ونار الوجد للمقيمين.

• ربما!

- هذه الـ«ربما» لها قصتها معنا نحن الفلسطينيين! تظل تطل برأسها صوبنا كلما عانقنا شجرةً أو حجراً أو حفنة تراب.

• يا لهذا القلب الذي يحترق لتعيش الروح والجسد.

- إنه استشهادي! لطالما قلنا إن الاستشهاديين جبال، لكننا لم نقل من قبل إن الجبال استشهاديون.

• لكن الثمن باهظ.

- ثمن الاحتلال أكبر.

• يقولون إن الكرمل سيحتاج أربعين سنة لتعود أشجاره كما كانت.

- سنكون قد عُدنا، وسنرعاها. لتعيش عزيزة حرّة و«تتربى بعزنا».

• لكني أراهم يثبتون على صدورنا أكثر فأكثر.

- العودة حتمية وقريبة، وأقرب مما تتخيل. وأنا أؤمن بقوة شعبنا وإصراره. وأؤمن بأن ما فعله الكرمل، ما كان ليفعله جبل آخر بمحتليه لو لم يكن فلسطينياً أصيلاً.

• هل أصبح الكرمل رمزاً؟

- وأكثر. أن ترزح تحت الاحتلال هو صمود، أن تتشرد في اللجوء هو عزة، ورفض للبقاء وفريسة للمجازر. أما أن تبقى وتصبر ستين سنة ثم تحرق نفسك بالمحتلين وتستعصي على الإطفاء، فهذا هو الانتصار.

• لكنه انتهى.

- وسيعود من رماده حين نعود. هذا قدر المنتمين إلى هذه الأرض وترابها وشجرها..

• إنه قدرنا يا صديقي، تحت الاحتلال، لا مجال لغير الاستمرار في الحياة وغرس مزيد من الأولاد والأشجار في هذه الأرض، بانتظار العائدين..

- تذكر يا صديقي دائماً أن اللاجئ أحد شخصين: عائد أو مقاوم.. «فإن عشت فَعِش حراً.. أو مت كالأشجار وقوفاً.. وقوفاً كالأشجار!».