مجلة العودة

جسر العودة: «شاعر الانتفاضة» اللاجئ خميس - ياسر علي

«شاعر الانتفاضة» اللاجئ خميس

ياسر علي

من قال أن عالم التكنولوجيا يُميت الأحاسيس، وإن الإنترنت تقطع العلاقات الاجتماعية؟ ومن قال إن الجنود المجندة لا تلتقي عبر آلاف الأميال، إن لم نقل تتنقل بسهولة بينها؟ ومن قال إن المثل يقتصر على «رُبّ أخ لم تلده أمك» وإنه لم يكتمل بعبارة «ورب أخ أتاك به الإنترنت!»؟ ومن قال إن العالم الافتراضي كُلّيُّ الافتراضية، ولا مجال للواقع فيه؟

نقلت الأخبار في ليالي العيد رحيل الشاعر الصديق خميس لطفي، الذي ملأت قصائده فضاء المنتديات الإلكترونية، وحملت أشعاره روح الانتفاضة وأرّخت لزمانها..

هذا الشاعر الذي التقيته في العالم الافتراضي، فإذا بالجنود المجنّدة تحضرنا وتشعل أحاسيس الأخوّة، وكاد يكتمل الافتراض بالواقع عندما كدتُ ألتقيه في الأراضي المقدسة بالحجاز.

كانت مجلة «العـودة» آخر من أجرى معه لقاءً منشوراً، مع أنه كان يعتذر عن إجراء المقابلات والحوارات، من دون أن يخبرني بذلك، فقد أجريت معه أربعة حوارات، وأزعم أنني الوحيد الذي أجرى معه لقاءات صحفية، خاصة في الفترة التي نُسبت قصيدته «شَتْ أب» في المنتديات إلى الشاعر الشهير أحمد مطر، وذلك لتشابه الأسلوب بينهما، فاستلزم الأمر حملة إلكترونية لإثبات نَسَب هذه القصيدة إليه، وهي قصيدة سببت له حرجاً كبيراً، حين كان يصدّه البعض بحجة أنه «لطشها» من مطر، فتغاضى عنها وتناساها، لكن أصدقاءه تولوا الرد في عشرات المواقع والمنتديات لتوضيح أن صاحب هذه القصيدة هو خميس.

ولد في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، من أسرة فلسطينية لجأت من قرية القباب. وقضى سني طفولته المبكرة في دير البلح التي نزح عنها عام 1968، قبل أن يكتمل شبابه. حصل في أوروبا على بكالوريوس في الهندسة الإلكترونية، وعمل مهندساً للاتصالات في الخليج.

كان معظم شعره متعلق بالانتفاضة، وهو صرّح في إحدى مقابلاته بأنه «مدين للانتفاضة المجيدة بكل ما كتبه من الشعر». لذلك اخترنا له لقب «شاعر الانتفاضة» اللاجئ.. فقد واكب انتفاضة الأقصى عبر الفضائيات والإنترنت، وفعّل دوره في دعم الانتفاضة من خلاله مثل آلاف الفلسطينيين غيره الذين كانوا يقاومون إلكترونياً.. من الشعراء والفنانين التشكيليين والمنشدين وغيرهم، واختار لنفسه في البداية اسم «الشاعر». ثم غيّره إلى «خميس»، وهو الاسم الذي اعتمده لدى إصداره المجموعة الشعرية الأولى «وطني معي». في المجموعة الثالثة استكمل الاسم الذي تُوفي عنه وهو «خميس لطفي».. غير أن اسمه الكامل لم يكن معروفاً إلا للقلة القليلة من أصدقائه، وأحسبني منهم، وهو: خميس لطفي احْـزيِّن.

تقرأ قصائده فتذهلك جرأته في قِصرِ الأبيات واقتحام الأوزان كأنه يتكلمها ولا ينظمها، وابتكاره القوافي الصعبة التي قلّما يطرقها شاعر بأسلوبه. أشعاره سهلة تمتلئ بالبساطة والبراءة وربما السذاجة والسطحية في توصيل أفكاره العميقة.. وقصائده ممتنعة يصعب أن يأتي الشعراء بمثلها، فقلّة هم الشعراء الذين يجيدون هذا الأسلوب.

كان ينظم الشعر كأنه يتكلم، ويقود القارئ بسلاسة في متعرجات وزواريب سهلة الانزلاق، إلى مفاجآت المعاني عند المنعطفات. ويكاد في كل قصيدة يفاجئنا ببعض الجمل العادية التي يقولها الإنسان في يومياته، يفاجئنا بأنها موزونة على أوثق أبحر الخليل.

ولشدة اندماجه بأحداث الانتفاضة الفلسطينية يصعب أن تجد حدثاً مفصلياً لم يصدر معه قصيدة قد لا يذكر هذا الحدث فيها إطلاقاً، ولكن تفاعله العاطفي مع الأحداث –كما يبدو- يزوده بالدفعة الإبداعية اللازمة من أجل قصيدة جديدة لا تكون بالضرورة عن الحدث نفسه.

كان يؤلمه أن يظل بعيداً عن فلسطين، وعن غزة، وهو الذي نظم لها القصائد عند شاطئ البحر، وقد أدرك أنه لم يعد فلسطينياً مجرداً، بل إن صفة اللاجئ سترافقه طوال حياته، وكم كان يؤلمه أنه في لجوئه كسير الجناح لا يستطيع رغم كل تفاعله في الانتفاضة أن يساهم فيها، فيذكّر نفسه والآخرين بأنه لم ينسَ ولن ينسى، كما في قصيدته التي يقول فيها بلسان الشتات:

كَثُرَتْ بشأنك يا غريبُ الشائعاتُ

قالوا: نسيتَ شوارعَ القدسِ العتيقة

واختلفْتَ هنا، وألْهَـتْكَ الحياةُ

ونسيتَ أيامَ الطفولةِ والصبا،

ثم انمحت من ذكرياتك ذكرياتُ

ما عُدتَ نفسَكَ يا غريبُ ولم تعدْ

تغريك في الأقصى العبادةُ والصلاةُ

لم يبق ممَّن كُنْتَه يوم اللجوء إليّ،

إلاَّ اسمٌ رباعيُّ،

وصوتُكَ، والملامحُ والسماتُ

مات الفلسطينيُّ فيكَ ولم تعد

لك في النضال مساهماتُ

..

رحمك الله يا صديقي المبدع.. عشت لاجئاً ومضيت لاجئاً، وهذا قدر اللجوء وثمن المحنة.