مجلة العودة

صفحة من كتاب «أكلهُ الذئب» لشاكر النابلسي

عن سيرة الفنان ناجي العلي
  صفحة من كتاب «أكلهُ الذئب» لشاكر النابلسي
 

في هذه الفترة لفت نظر النقاد اهتمام العلي بجماليات المكان من وجهة نظر رسام كاريكاتيري. واستوقفهم رسم العلي لعين الحلوة أعز الأمكنة لديه خارج فلسطين. فرسم العلي مخيم (عين الحلوة) (ش 150) ليس خيماً وطرقاً وبيوتاً فقيرة من الزنك والخشب والطوب، ولكنه رسمه على شكل امرأة فلسطينية في ملامحها المميزة: العين الواسعة الحزينة، الأنف الدقيق، الذقن الملساء، والفم الذي يرسم مع العين والأنف والذقن الغضب، وقد انسابت من العين خمس دمعات. اثنين منهما استحالتا إلى قنبلتين مدمرتين بعد أن غادرتا الوجه، في حين أن الدمعة الثالثة بدأت بالتشكل كقنبلة وتفتح وهي تنقلب من الخروج من الوجه. وكأن العلي يريد أن يقول لنا إن الوجه الفلسطيني هو الذي يحيل الدمع الباكي إلى قنابل مدمرة، وإن عين العلي الفلسطينية لا تبكي بقدر ما هي تقاوم، وإن الدمع الذي هو في تراثنا رمز الاستسلام والضعف وقلة الحيلة، أصبح له هنا رمز جديد هو الصمود المقاوم والإصرار على العمل.


ونلاحظ في هذه البؤرة الأساسية هنا العين. فالعين هنا هي البعد الأعمق. وهي التي تقبض على نظرة المشاهد من أول وهلة. وهي التي تجمع في ثناياها كل المعاني التي تقولها اللوحة. ولو شلنا العين من هذه اللوحة لما بقي من هذه اللوحة أي شيء ينظر إليه. وما يلفت النظر في هذه اللوحة هو بعد من أبعاد جمالية هذا المكان المجازي، أن العلي رسم المرأة الفلسطينية باللون الأسود، وهي الجدة والأم والأخت والابنة والخالة والعمة الحزينة المكلومة التي لا بد من أنها فقدت حفيداً أو ابناً أو أخاً أو ابن أخ أو خطيباً أو حبيبا. لذا، فهي في حزن. ولباس حزننا هو اللون الأسود وهو اللون الذي يعني في تراثنا المقاومة والعنف والثورة التي قادها العباسيون على الأمويين، واستعملوا السواد لوناً لعلمهم. ورغم ذلك لم يلبس العلي «الحلوة» هذا السواد الذي يشير في تراثنا إلى معنى الحزن والحداد على من قبضوا، بل ألبسها هذا البياض الذي طغت مساحته على مساحة السواد. وهذا البياض له في حضارتنا معاني النقاوة والنور والسلام. وهو لون الملابس الدينية ورمز الطهر والنقاء ولون القوة والسلطة المتمثل في لون الراية العربية حتى نهاية العصر الأموي. كذلك فإنه لون الراية العربية في الأندلس. وما زال هذان اللونان هما اللونين العربيين الوحيدين المميزين في الجزيرة العربية حتى اليوم، ممثلين بالثوب الأبيض الذي يلبسه الرجل، والعباءة السوداء التي تلبسها المرأة.

إن استعمال اللونين الأبيض والأسود في هذا الرسم وفي جميع رسوم العلي، عمل مقصود ومدروس، فكلا اللونين متناقضين متضادي تناقض الحياة العربية وتضادها. فهناك تناقض وتضاد بين ما يقوله السياسيون وما يفعلونه. وهناك تناقض وتضاد بين ما نتصرف به في العلن وما نتصرف به في الخفاء. ولا بد من أن نشير في هذه اللوحة إلى حجم حنظلة الذي يدير دائماً ظهره لنا نحن المهزومين. فنلاحظ أن حجم جندي الوباء المدجج بالسلاح والخوذة الواقية وعليها ختم سليمان على شكل مثلثين متعاكسين كانا رمزاً لوحدة الجسد والروح في القديم ثم أصبحا حديثاً رمزاً لوحدة القتل والتشريد، الذين تدعمهما ترسانة عسكرية هائلة مرعبة تقف خلفها وتغذيها أكبر دول الأرض.

من جانب آخر، نشعر بأن حنظلة والجندي قاموا بدور التوازن في اللوحة، فهما ثقلان متوازنان وكتلتان متوازنتان حجماً وقوة. ضبطا اللوحة من اليمين واليسار وشدا طرفيها.

ومن هنا كانت هذه اللوحة رسماً تعبيرياً جمالياً بحتاً. فلا شيء فيه يضحك بقدر ما فيه أشياء كثيرة تبعث على التأمل والتفكر والدرس. وهي لوحة تنتمي إلى رسم (البورتريتات) الفنية الخالصة.

المصدر: كتاب « أكلهُ الذئب» من صفحة 381-389