مجلة العودة

مرج الزهور... محطة في تاريخ الحركة الإسلامية في فلسطين

مرج الزهور... محطة في تاريخ الحركة الإسلامية في فلسطين


تأليف: حسني محمد البوريني
إصدار مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات - 2012
من المبحث الثالث... عائدون كما نحب


 لم يفارقنا حلم العودة لحظة واحدة، ولم يكن مجرد حلم، بل كان قناعة راسخة وحقيقة واقعة. نراها ونحسّها بالرغم من انسداد الأفق واختفاء أية بارقة أمل تبشّر بعودة محتملة يوماً من الأيام، غير أنّ شيئاً ما كان يجري في أوصالنا كجري الدم في العروق، كنا نحسّ بفيض من الثقة والأمل ينبض في عروقنا، كل تفكيرنا، كل رؤانا، كل حساباتنا وحتى أحلامنا ورؤانا في المنام كانت تقوم على أننا عائدون حتى وإن طال موعد الإياب، وتجسيداً لهذا المعنى سمّينا مخيمنا: "مخيم القدس- العودة"، وإذا انتظمنا في فرق رياضية أو خلال المسيرات، كنا نسمي أنفسنا أسماءً تؤكد ثقتنا بأننا عائدون،  وفرق النشيد والتمثيل، وفي المسابقات الثقافية والمناظرات الشعرية كانت كل فرقة تسمي نفسها: "فرقة العودة"، أو "عائدون" أو "فرقة القدس" أو "فلسطين" أو نحو ذلك. وعند التعريف بأنفسنا كان الواحد منا يعرّف نفسه بقوله: "أنا المبعد العائد بإذن الله". ولست أدّعي أن ذلك الإحساس كان عندنا بدرجة واحدة، بل إن نفراً منا كانت نظرته سوداوية، متشائماً، يائساً من العودة حتى على المدى البعيد، غير أن هؤلاء المتشائمين كانوا قلة على كل حال، وربما كان هذا القليل مزاجياً لا يستقر على حال، ونحن نعذر هؤلاء وأولئك؛ إذ كانت نشرات الأخبار تؤثر فينا كلِّنا، ولكن على تفاوت؛ فمرةً يشعر بعضنا بعودة قريبة، وكرّة يتباعد هذا الأمل، غير أنّ المبعدين في مجملهم كانوا واثقين بأنّ لهذه المحنة نهاية، ولو كان المبعدون كلهم على صعيد واحد من الثقة والأمل، لما كنت أسمع التعليقات من هنا وهناك حين أطوف على الخيام ليلاً بنشرة إخبارية وأقرأها عن قضية الإبعاد مما ذكرته محطات الإذاعة خلال 24 ساعة، مع تحليل إخباري كان يكتبه أحد أعضاء لجنة التوجيه المعنوي، كانت هناك تعليقات محبطة من بعض الإخوة تدل على يأس صاحبها من العودة بسبب خبرته الطويلة في القضية الفلسطينية ومواقف الحكومات العربية منها.

ومهما يكن من أمر، فإن الصورة الإجمالية لنفسية المبعدين كانت عالية جداً، مستقرة مطمئنة، عرضت عليهم العروض الكثيرة باستضافتهم هنا أو هناك لسنتين أو أقل أو أكثر... وكلّها كانت كما يقولون (فتّاشات) لامتحان مدى تماسك صفّهم واجتماع كلمتهم وتصميمهم على العودة أو البقاء في مخيمهم حتى يعودوا، باءت كل هذه  العروض بالفشل.

كان أصحاب هذه العروض يبحثون عن مخرج لإسحق رابين وحكومته أكثر من بحثهم عن سبل ينهون بها معاناة المبعدين. لقد كان حرصهم على تخليص رابين من هذه الورطة، ليس فقط من باب رفع الحرج عنه وتخفيف الضغط الإعلامي فقط على الكيان الغاصب؛ فذلك ربما لا يكون ذا بال عند رابين نفسه الذي لا يهمه رأي عام، ولم يفكر أن يستمع مرة لمحاولات الصغط السياسي أو الإعلامي الدولي، مع عدم تقليل قيمة هذا الحرج طبعاً، ولكن الأهم من ذلك كله، أن رابين لا يريد أن يظل المبعدون على تواصل مع العالم والمجتمعات التي عملت وسائل الإعلام الصهوني منذ سنين طويلة على تضليلها وإخفاء حقيقة الممارسات الإسرائيلية، كما عملت بشكل متواصل على تضليل المجتمعات والشعوب الغربية في النظرة إلى الشعب الفلسطيني، الذي طالما صوّرته أبواق الدعاية الصهيونية على أنه شعب مختلف، وأن أبناءه إرهابيون متوحشون ومخرّبون.

إنّ الورطة الحقيقية لرابين وحكومته ببقاء المبعدين، تعني بقاء وسائل الإعلام تحجّ إلى مخيمهم صباح مساء، وتظل قضيتهم تتصدر الأخبار العالمية على صدر صفحات الصحف والمجلات العالمية وعلى شاشات التلفاز. وستظل مراكز البحث العلمي والدراسات السياسية والفكرية تسطّر المزيد من الصفحات عن المبعدين، وتقذف بمئات الكتب وآلاف المقالات إلى الأسواق الأدبية والفكرية والعلمية مع آلاف الصور عن يوميات المبعدين وطريقة حياتهم، ومن واقعهم المر العسير. كما أنّ الإبعاد في حد ذاته ورطة للأنظمة العربية؛ لأنها ستكشف حجم التواطؤ على المبعدين أو الضعف والاستجداء في أحسن حال، ورطة عربية أكثر منها ورطة للاحتلال الإسرائيلي المسؤول الأول والمباشر عن تنفيذ هذه الجريمة؛ ذلك لأنها ستحول دون إمكانية تحقيق جولات من المباحثات العربية الإسرائيلية. فإن تجاوزوا عقدة الإبعاد وواصلوا مباحثات التسوية وقعوا في التناقض والحرج أمام شعوبهم، وإن سايروا مشاعر شعوبهم فاتهم ما كانوا به يحلمون من تطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي يؤمِّلون بسببه نوال دعم اقتصادي ورفاه اجتماعي يعدهم ويمنّيهم به الاحتلال، وما يعدهم إلا غروراً. فبقاء قضية المبعدين كما هي سيحول دون برامج التطبيع للعديد من الدول العربية التي سال لعابها لهذا التطبيع مع الكيان الصهيوني، إذا هي قاطعت أو أوقفت جولات المفاوضات المرسومة، في برامج التسوية الموهومة. وسواء أحسنّا الظن في مقاصد تلك العروض وروّجوها أو أسأنا فيهم وفي عروضهم الظنون، فقد رفضها المبعدون؛ فليس لهم بديل من العودة الجماعية لأرض الوطن، حتى ولو كانت عودتهم، أو عودة بعضهم إلى السجون الإسرائيلية. ورفض المبعدون تبعيض هذا الحق بعودة دفعة واحدة منهم تشمل مئةً وواحداً، على أن يتم تفكيك مخيمهم ويرحّل الباقون إلى أي بلدٍ عربيّ إلى مدة يتم تحديدها.

كان المبعدون يدركون أنّ مغادرة مخيمهم إلى داخل لبنان أو أيّ مكان في هذا العالم معناه اللجوء الأبدي، وفقدان حق العودة مهما قدّم لهم من ضمانات. ورفض المبعدون ذلك جملةً وتفصيلاً، وثبتوا على هذا الموقف شهوراً.♦