مجلة العودة

فلسطينيو 48: من مواجهة «الأسرلة» إلى تحدي «يهودية الدولة» - عباس إسماعيل

بعد 62 سنةً من الاحتلال
فلسطينيو 48: من مواجهة «الأسرلة» إلى تحدي «يهودية الدولة»
 

عباس إسماعيل/ بيروت

مثّل الفلسطينيون الذين بقوا داخل المناطق الفلسطينية التي احتلتها العصابات الصهيونية سنة 1948، والذين حصلوا لاحقاً على حق المواطنة في «إسرائيل»، وباتوا يُعرّفون من الناحية المدنية، بأنهم مواطنون في الدولة اليهودية، تحدياً لهذه الدولة في كثير من المفاهيم وعلى كثير من المستويات.

يحظى الوجود الفلسطيني داخل الدولة اليهودية بأهمية كبيرة في حركة الصراع. هذه الأهمية تنطلق من حقيقة أن هذا الوجود يمثّل تحدياً كبيراً لهذه الدولة في مسألتين وجوديتين، تمسّان صميم تعريف الدولة العبرية لنفسها، هما يهودية الدولة وديموقراطيتها.

في المسألة الأولى، يهودية الدولة، يمثّل فلسطينيو 48 تحدياً وهاجساً للتعريف اليهودي للدولة، ومن شأن تعزيز الوجود العربي، على مختلف الصعد، ولا سيما الديموغرافية، أن يقوّض هذا التعريف، وبالتالي أن ينسف أصل الهدف الذي عملت من أجله الحركة الصهيونية.

وفي المسألة الثانية، يكشف واقع الفلسطينيين في الداخل زيف الديموقراطية الإسرائيلية المزعومة، ويدحض المقولة التي يتغنى بها الإسرائيليون أمام العالم بادعاء أن «إسرائيل واحة الديموقراطية في الشرق الأوسط»، وبالتالي من شأن كشف حقيقة التمييز بحق فلسطينيي 48 أن يجرّد الدولة اليهودية من أهم أسلحتها الدعائية والإعلامية، وحتى السياسية أمام المجتمع والرأي العالم الدوليين.

وتزداد أهمية الوجود العربي داخل الدولة اليهودية في ضوء البُعد السياسي والأمني، الذي ينطوي عليه هذا الوجود، والذي يدخل في صميم الصراع العربي الصهيوني القائم في المنطقة، والذي يحمل في طيّاته قدرة كامنة كبيرة على التأثير فيه.

فلسطينيو 48 في مواجهة «الأسرلة»

تقديراً منهم لخطورة الوعي القومي لدى فلسطينيي 48 على يهودية الدولة، لجأ المسؤولون الإسرائيليون، منذ اللحظة الأولى، إلى السعي لـ«أسرلة» فلسطينيي 48، في محاولة لا تهدف إلى تحويل فلسطينيي 48 إلى مواطنين متساوي الحقوق مع اليهود، بل لتحويلهم إلى أُناس يحملون هوية قومية مشوهة، من خلال إعادة صياغة وعيهم بما يتلاءم مع مصالح الدولة اليهودية.

المقصود بـ«الأسرلة» ليس دخول فلسطينيي 48 في الحياة الإسرائيلية العامة والنضال في سبيل تحصيل الحقوق التي تمنحهم المواطَنة، واستخدام الأدوات والمفردات التي توفرها لهم المؤسسات في المجتمع الإسرائيلي، وخوض الحياة المدنية بشكل كامل، بل المقصود بـ«الأسرلة»، تأسرُل الوعي القومي والشعور والانتماء لدى الفلسطينيين في الداخل، أي شعورهم بأن «الدولة العبرية» ليست مجرد دولة مدنية بالنسبة إليهم، بل دولة يشعرون بأنها تمثل وعيهم القومي وحسّهم الوطني وبعدهم الثقافي، وأن شعاراتها ورموزها ومناسباتها تمثلهم.

من هنا بدأت محاولات «الأسرلة» باكراً، واستمرت حتى يومنا هذا، على الرغم من التراجع الكبير جداً، الذي أصاب مسيرتها، ولا سيما في أعقاب ازدياد الوعي القومي والديني بين فلسطينيي 48.

يمكن القول إن السلطات الإسرائيلية عملت، ولا تزال، على فرض «الأسرلة» من خلال مستويين مترابطين، سياسي وقومي، عبر مصادرة الوعي والموقف السياسي، وتفتيت الانتماء القومي.

تطور الوعي السياسي

على المستوى السياسي، مُنيت مساعي «الأسرلة» بفشل ذريع، بعد أن كانت قد حققت في العقود الأولى من عمر الدولة العبرية نجاحاً باهراً. فبعد أن كانت الأحزاب الصهيونية والقوائم الانتخابية المرتبطة بها تحصد معظم أصوات فلسطينيي 48 خلال الانتخابات العامة، لأسباب عديدة لا يتسع المجال لتفصيلها، تراجعت كثيراً نسبة التأييد للأحزاب الصهيونية خلال العقدين الأخيرين. وعلى سبيل المثال، حصلت الأحزاب الصهيونية خلال الانتخابات الأولى التي جرت سنة 1949 على 88% من أصوات فلسطينيي 48، مقابل 22% ذهبت إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي، فيما لم تتجاوز نسبة الأصوات التي حصلت عليها الأحزاب الصهيونية بين العرب خلال انتخابات 2009 أكثر من 18%، مقابل 82% من أصوات العرب ذهبت إلى الأحزاب العربية، فضلاً عن نسبة لا يستهان بها من الذين قاطعوا الانتخابات. هذا التراجع الكبير يبيّن حجم الفشل الذي أصاب مساعي «الأسرلة» على مستوى الوعي السياسي، المرتبط أساساً بالوعي القومي.

بيد أن المؤسف في هذا المجال هو أنه رغم فشل استراتيجية «الأسرلة» السياسية عبر مصادرة الموقف السياسي، تمكن المسؤولون الإسرائيليون من بلورة نمط جديد من أنماط «الأسرلة» السياسية، أسهم فيه أيضاً بعض الشخصيات والتيارات السياسية بين فلسطينيي 48، ممن بدأوا يخلطون بين نهج مقاومة «الأسرلة» من داخل المعترك السياسي، وخطر الذوبان في هذا المعترك إلى درجة نسيان الذات، فبتنا نرى البعض منهم يشاركون في المناسبات السياسية والأكاديمية وحتى الاحتفالية، التي تنظمها المؤسسة الحاكمة في الدولة العبرية، أو هيئات مرتبطة بها، من دون التبصر في خلفيات تلك المشاركة بما يتجاوز بعض المكاسب الشخصية أو الحزبية الضيقة.

فرّقْ تسُدْ

على صعيد تجزئة الانتماء القومي، سجلت مساعي «الأسرلة» نجاحاً في هذا المجال، حيث لجأت السلطات الإسرائيلية إلى سياسة «فرّقْ تَسُدْ» لتجزئة فلسطينيي 48 من طريق التعامل معهم كمجموعة من الأقليات لضرب الرابط القومي وتفكيكه، لذلك أوضحت الفوارق الدينية بين المسلمين والمسيحيين والدروز وأكدتها، وأبرزت خصوصية البدو، وغذّت الولاء القبلي العشائري والعائلي عبر التشديد على انقسام العرب إلى أقليات دينية وتحويل هذه الأقليات الدينية إلى أقليات سياسية وقومية، كما فعلت مع الطائفة الدرزية عندما فصلتها عن بقية الشعب العربي من طريق خلق ما سمّته «القومية الدرزية» و«التراث الدرزي» الخاص، بل إنها اعتمدت سياسة التجزئة أيضاً داخل كل «أقلية دينية»، فقسّمت المسلمين إلى عرب وبدو، والمسيحيين إلى يونان كاثوليك ويونان أرثوذكس وموارنة، والدروز إلى دروز دالية الكرمل ودروز الجليل، والبدو إلى قبائل أو إلى بدو النقب وبدو الشمال. وكذلك، قسّمت العرب جغرافياً أيضاً إلى عرب المثلث وعرب الجليل.

إن أبرز مثال على تمظهر أسرلة الانتماء القومي العرب، يمكن ملاحظته من خلال موقف النظام الإسرائيلي من الطائفة الدرزية، حيث اتخذت السلطات الإسرائيلية مجموعة من الخطوات والإجراءات لتعزيز الفصل بين الدروز وغيرهم من العرب، أهمها: فرض التجنيد الإلزامي على الدروز. ولا شك في أن لتجنيد الدروز في الجيش الإسرائيلي آثاراً سلبية فادحة على مستوى الوعي القومي للدروز وعلى المستوى السياسي والاجتماعي في علاقتهم مع إخوانهم العرب من الطوائف والمناطق الأخرى، وهذا ما يخدم بالتأكيد سياسة «الأسرلة» الإسرائيلية.

لكن في مقابل هذه الزاوية المظلمة من محطات «الأسرلة» التي سجلت السلطات الإسرائيلية اختراقاً مهماً في جدار فلسطينيي 48، يمكن الإشارة إلى زوايا مضيئة وواعدة في مجال التصدي لظاهرة «الأسرلة» التي تستهدف وحدة الانتماء القومي لفلسطينيي 48، أهمها ازدياد قوة التيارات من أبناء الطائفة الدرزية، داخل فلسطين وخارجها، العاملة على إحباط المساعي الإسرائيلية لأسرلة أبناء الطائفة الدرزية داخل فلسطين، وازدياد الوعي القومي لدى فلسطينيي 48 من أبناء الطوائف الأُخرى، وإدراكهم حقيقة المؤامرة الإسرائيلية والعمل على إجهاضها.

تحدّي يهودية الدولة

يُمثل التحدي الذي يضعه فلسطينيو 48 أمام يهودية الدولة، العلامة الفارقة الأبرز في نضالهم ضد «الأسرلة»، والدليل الأكثر سطوعاً على فشل المساعي والجهود الجبارة التي بذلتها المؤسسة الإسرائيلية في هذا السياق. هذا ما تؤكده موجة التصريحات والمواقف الصادرة على شخصيات تنتمي إلى كل أطياف القوس السياسي والفكري والاجتماعي، التي تدعو إلى ضرورة الحفاظ على يهودية الدولة وتكريس طابعها اليهودي، وطوفان التشريعات القانونية التي يشهدها الكنيست الإسرائيلي في العقد الأخير، والتي ترمي خصوصاً إلى الحفاظ على يهودية الدولة من خلال وضع عراقيل قانونية أمام كل المحاولات «الديموقراطية والسلمية» التي يقوم بها فلسطينيو 48 لرفض الطابع اليهودي لـ«إسرائيل» والمطالبة بتعريف للدولة العبرية يضمن حقوقهم المدنية والقومية، الفردية والجماعية، بما ينسجم مع ما هو متعارف عليه في الديموقراطيات الغربية، كالمطالبة بأن يكون الكيان الصهيوني «دولة كل مواطنيه»، أو «ثنائية القومية»، بدل أن يكون دولة يهودية فقط، يُستثنى فيها العرب من التمتّع بحقوقهم القومية التي كفلتها القوانين الدولية.

ولعل الإيجابية الكبرى التي يمكن تسجيلها في سياق حملات التهويد الأخيرة، الكلامية والقانونية والعملانية، تكمن في انتقال المؤسسة الصهيونية الحاكمة من موقع الهجوم إلى موقع الدفاع، بمعنى أنه بعد عقود من العمل الدؤوب على «أسرلة» فلسطينيي 48، ومحاولة طمس انتمائهم القومي ومحو ذاكرتهم التاريخية والوطنية، تجد المؤسسة الصهيونية نفسها مضطرة إلى خوض صراع مقابل فلسطينيي 48 لتكريس الطابع اليهودي للدولة، والجديد في صراعها هذا نقله إلى حلبة الكنيست الإسرائيلي لقطع الطريق أمام أي نشاط سياسي وفكري يقوده فلسطينيو 48 في هذا السياق، وتوسل القانون ذريعة لقمع الفعل والفكر الفلسطيني في الداخل.

وهكذا، على سبيل المثال لا الحصر، أقر الكنيست الإسرائيلي خلال السنوات الأخيرة جملة من القوانين، ترمي إلى قوننة يهودية الدولة، والحدّ من التزايد الديموغرافي لفلسطينيي 48، وقمع نشاطهم السياسي التغييري.