مجلة العودة

من مرسى مطروح إلى مخيماتنا الفلسطينية في سورية

من مرسى مطروح إلى مخيماتنا الفلسطينية في سورية

احمد الباش - مرسى مطروح

أوكلما آخيت عاصمة رميتني بالحقيبة... لا يكاد الفلسطيني يستقر في بلد ما، حتى تراه يحزم حقائبه وذكرياته وينتقل بها إلى بلد آخر، وكأن الترحال أصبح جزءاً من هويته.الفلسطيني في سورية، منذ خمسة وستين عاماً، كان استثناءً لم يكن يشعر ولو للحظة بحالة الاغتراب وهذا الترحال. كان يتألم؛ لأن العواصم ترفض استقباله، ولم يكن ليتوقع أن يخرج من سوريا مرغماً؛ فهذا لم يكن بالحسبان.

حصل ما حصل في سورية من أزمة ومن حرب لا هوادة فيها، ولم يكن يتخيل الفلسطيني كل ذلك، ولم يكن يتمنى ذلك؛ لأنhttp://www.alawda-mag.net/assets/issue65/p16.gifالرابط الاجتماعي والاقتصادي وحتى السياسي كان يمنعه من هذا التخيل.

منذ اليوم الأول للأزمة السورية، اختار الفلسطيني النأي بنفسه في هذا الأزمة، واختار في بعض الأحيان إصلاح ذات البين. وعندما فشلت جهوده اختار مساراً آخر، هو مساعدة الشعب السوري من خلال جعل المخيمات الفلسطينية مناطق آمنة للنازحين السوريين، وبالتالي تحرك في عمل إنساني إغاثي راقٍ قدّم فيه المثل الأعلى في التآخي بينه وبين الشعب السوري.

وكان ينطلق في ذلك من إحساس الواجب وردّ الجميل للشعب الذي وقف معه واحتضنه في محنه المتلاحقة منذ عام 1948، فاستقبل في حناياه ما عجزت دول صغرى وكبرى عن تحمّله عندما تدفق إليها اللاجئون السوريون.

لكن مع تطور الأحداث والمحاولات المتكررة لزجّ الفلسطيني في أتون المعركة في سورية، وبعدها استهدافه بالقصف وبالقذائف، ومن ثم بالقصف الجوي وعمليات القنص، وجد الفلسطيني في سورية نفسه أمام خياراتhttp://www.alawda-mag.net/assets/issue65/p17.gifصعبة للغاية.

بعض الفلسطينيين تنقلوا بين مخيمات سورية التي لم يصلها لهيب المعركة، كمخيمي خان دنون وخان الشيح. والبعض الآخر فضّل الابتعاد إلى بعض القرى والبلدات الآمنة في سورية، كقرى القنيطرة والسويداء.

أما من كان يمتلك شيئاً يسيراً من المال، فقد فضّل الذهاب إلى بلدان الجوار، لبنان وسورية، رغم صعوبة المعيشة في هذين البلدين، والقوانين السارية فيه بشأنه.

جزء صغير من أبناء المخيمات الفلسطينية ابتعد أكثر من ذلك؛ فهناك بلدان الربيع العربي فتحت أبوابها الموصدة أمامه منذ زمن بعيد (مصر وليبيا)، فاختار اللجوء إليها.

البعض من حملة الشهادات الجامعية والتخصصات من طب ومحاماة وهندسة، وممن يمتلكون الحدّ الأدنى من المعيشة في سورية، اختاروا مصر للجوء والإقامة، إلى حين انقشاع الأزمة في سورية، وتوقعوا ألا تطول.

وشريحة العمال اختارت ليبية لإيجاد فرصة عمل لهم وليقوا أولادهم خطر الموت تحت القصف والقنص في مخيماتهم التي أصبحت ساحة حرب حقيقية.

بعض الأفراد من هذه الشريحة باع أثاث بيته ومصاغ زوجته إن وجد، واشترى بها تذاكر السفر مجازفاً بكل ما يملك.

وصل البعض إلى مصر وانتقل إلى ليبيا وبدأت تصل الأخبار إلى المخيمات عن فرص العمل، التي رافقها في الوقت نفسه دخول المخيمات لهيب المعركة في سورية، وصارت مسرحاً للمعارك بين الجهات المتقاتلة. خرجت بعض العائلات الفلسطينية باتجاه القاهرة، ومنها إلى ليبيا التي أصدرت قراراً يمنع دخول الفلسطينيين إلى أراضيها، فعلقت بهذا القرار بعض العائلات على الحدود المصرية الليبية.

بعض العائلات دخل منها الزوج بداية، وعلقت الزوجة والأولاد الذين أرادوا اللحاق برب أسرتهم.

وبعض العائلات جاءت بتذاكر السفر وبعض النقود القليلة التي تُؤمّن دخولهم إلى ليبيا، ولم يحسبوا حساباً لما بعد ذلك؛ لأنهم كانوا على يقين بأنهم سيعملون بعد وصولهم مباشرة. وعندما مُنعوا وجدوا أنفسهم في مصر بلا مال يستطيعون العيش به بعد هذا المنع.http://www.alawda-mag.net/assets/issue65/p18.gif

كلما أدرت وجهك إلى شخص من تلك العائلات، وجدت عنده القصة الأغرب والغصة الأصعب لما حل به.

وجوه عدة من وجوه المعاناة الشديدة للاجئ الفلسطيني، وكأننا اليوم أمام قصة رجال تحت الشمس لغسان كنفاني، وفصول أخرى من فصول النكبة الفلسطينية وما جرى بعدها من نكبات.

هنا في مدينة مرسى مطروح المصرية التي تقع على بعد 650 كم عن القاهرة غرباً و200 كم عن الحدود المصرية الليبية، وفي بناء واحد التقت اثنتا عشرة عائلة فلسطينية آتية من سوريا من مخيمات اليرموك في دمشق والنيرب في حلب والرمل في اللاذقية، ومن مناطق مثل المعضمية في دمشق، جمعتها مأساة واحدة؛ إذ أراد أفرادها الدخول إلى ليبيا من مصر، فمنعوا من عبور الحدود.

تلقفتهم الأيادي الخيّرة من هذه المدينة الطيبة، فأسكنهم أهلها في قلوبهم قبل أن يسكنوهم في بيوت إلى أن تنتهي هذه القضية.

عندما تنظر إلى وجوههم، ترى الحزن يملأ تلك الوجوه. يقولون: لم نخرج فقط من أجل أولادنا، بل خرجنا من أجل عائلاتنا الأكبر في مخيماتنا في سورية الذين لا يجدون ما يقتاتون به الآن, خرجنا بحثاً عن الأمان، وبحثاً عن العمل.

التقيتهم جميعاً، واستمعت إلى قصصهم. فأبو علي غازي كان لديه مكتب تركيب المصاعد في ببيلا في دمشق ويسكن في مخيم اليرموك ــ شارع فلسطين. أغلق محله خلال المعارك التي جرت في تلك الناحية، وفقد بذلك مورد رزقه. أما بيته الذي يقع في شارع فلسطين الذي أصبح ساحة حرب حقيقية ومكاناً لسقوط القذائف، فمُنع من دخوله. باع سيارته ليشتري بها تذاكر سفر إلى مصر، ومن ثم إلى ليبيا بحثاً عن فرصة للعمل، فمنع من السفر. يقول أبو علي: تركت في المخيم ستة إخوة عاطلين من العمل، وكنت في الفترة الأخيرة أحد المعيلين لهم في معيشتهم هم وعائلاتهم. لم آتِ إلى هنا من أجلي وأجل أولادي فقط، بل من أجلهم أيضاً. سبقني أخي قبل أيام إلى بنغازي، واستأجر لي شقة هناك، ودفع مبلغاً كبيراً للحصول عليها. وبقيت الشقة فارغة تنتظرني، فأثقلت على أخي، وأنا علقت في مصر بلا عمل، والآن أقوم بصرف ما بقي من المال الذي لديّ والذي بدأ ينفد، ولا أمل حتى الآن في الدخول إلى ليبيا.

أما أبو قاسم شاهين، فقد كان يعمل في الإنشاءات الإسكانية ويسكن في حارة المغاربة بمخيم اليرموك، حيث تعرض حيّه للقصف أكثر من مرة، وخرج بأطفاله الأربعة بحثاً عن الأمن. فقد عمله وباع سيارته لشراء تذاكر الطائرة، وعلق على الحدود، والآن يعمل عاملاً بأجر زهيد ليقتات هو وعائلته.

أبو محمد ملحم كان لديه مكتب إعلانات في مدينة حلب، ويسكن في حيّ سيف الدولة، والأصل من مخيم النيرب. ذهب إلى ليبيا بعد أن رتّب أوضاعه في بنغازي، فعاد وأتى بزوجته وأولاده الثلاثة، فمنع من دخول ليبيا، تاركاً ما عمل به طوال الفترة الماضية هناك.

شاب من مخيم الرمل جاء بزوجة أخيه ليلحقها بزوجها الذي وصل إلى بنغازي سابقاً، فبقي الزوج هناك، والزوجة والأبناء وشقيقه عالقون على الحدود ينتظرون الفَرَج.

وتحدث أبو يامن الشايب عن حالته، وعرّف بنفسه فقال إنه لاجئ فلسطيني يعيش في مخيم اليرموك، وقد خرج بحثاً عن العمل بعد أن خسر محله في المخيم، وجاء إلى مصر ليتعرض لحالة نصب واحتيال خسر فيها كل ما يملك، واضطر إلى أن يعمل ابنه بأرخص الأثمان ليتدبر أمور معيشته.

حين تحدث أبو محمد الكيلاني وأخبرنا عن حاله، قال إنه كان موظفاً تربوياً، وبعد الظهر يعمل حلاقاً، وقد خرج بحثاً عن أمن لأطفاله وعن عمل، فجاء ووضع كل ما لديه من مال في هذه الرحلة لعله يجد ما يقتاته، وفوجئ بالمنع مثله مثل باقي العائلات.

من بقي من تلك العائلات رفضت الكلام ورفضت الحديث عن مشكلاتها، واكتفى أفرادها بالدموع والسؤال عمّا أوصلهم إلى هنا؛ إذ لم يتوقعوا في يوم من الأيام أن يصلوا إلى هذا المكان. صحيح أن الناس هنا طيبون كرماء يحسنون الضيافة، لكن في النهاية هي الغربة وهي الكرامة.

مأساة حقيقية أفرزتها الحرب في سورية، وطاولت شعبنا الفلسطيني بنيرانها وجوعها وقهرها وكرامتها، فهل من يسمع إلى نداءات هؤلاء واستغاثاتهم، مع العلم أنه يوجد أيضاً بعض العائلات الفلسطينية العالقة على الحدود وتسكن مدينة السلوم الحدودية؟