مجلة العودة

الاحتجاجات الشعبية في الضفة الغربية: الأزمة الاقتصادية ترتدّ على أوسلو وملحقاته

الاحتجاجات الشعبية في الضفة الغربية

الأزمة الاقتصادية ترتدّ على أوسلو وملحقاته
 
 

يمكن تلخيص اتفاق أوسلو الذي وقّع في 13 أيلول/ سبتمبر 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني بأنه اتفاق سياسي – أمني اعترف بالاحتلال وتخلى عن حقوق الشعب الفلسطيني.

لكن حتى تضمن الدول والجهات الموقّعة والراعية لاتفاق أوسلو نجاحه ووقوفه على رجليه، كان لا بد من اتفاق آخر إلى جانبه يؤسس لإقامة النظم التي تقوم عليها السلطة ويضمن بقاءها. لذلك جاءت اتفاقية باريس الاقتصادية في نيسان/ أبريل عام 1994، التي سبقت دخول ياسر عرفات إلى فلسطين المحتلة، والتي سبقت أيضاً إعلان  نشوء السلطة في حزيران/ يونيو من ذلك العام.

اتفاقية باريس بالتالي هي الإطار الاقتصادي والمالي الذي ينظم بقاء السلطة واستمرارها وأداءها لوظائفها، وذلك من خلال تنظيمها عملية الاستيراد والتصدير والصناعة والتجارة والتسليف وإقامة البيوت والمراكز المالية، وإدارة الجمارك والرسوم المالية. ومن أهم معالم اتفاقية باريس الاقتصادية، أنها ربطت الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي، ومنعت تطور الاقتصاد الفلسطيني مطلقاً، وربطت المصادر المالية الفلسطينية بالإسرائيليين، وجعلت استيراد الفلسطينيين للمشتقات النفطية يأتي فقط من خلال الإسرائيليين، ومكّنت الإسرائيليين من جمع أموال الرسوم وتحصيل الضرائب، وربطت الضرائب على القيمة المضافة بمثيلتها الإسرائيلية، في ظل الفارق الكبير في المستوييْن الاقتصاديين الفلسطيني والإسرائيلي، ومستوى الناتج القومي والنمو والفارق الكبير في الدخل.

وبالتالي، استفاد الإسرائيلي استفادة كبيرة من الاقتصاديات الفلسطينية، وحصد الفلسطينيون كل سلبيات الاقتصاد الإسرائيلي.

خداع

وظلّت السلطة الفلسطينية تتغنى باتفاقية أوسلو واتفاقية باريس طوال 19 سنة، في حين أن هناك فوارق جوهرية كبيرة بين الاقتصاد الفلسطيني والاقتصاد الإسرائيلي.

فالاقتصاد الفلسطيني هو اقتصاد واقع تحت الاحتلال، ويتحكم الاحتلال بكل مفاصله، فهو يستطيع تجميد التحويلات المالية وإغلاق المعابر أمام حركة التصدير والاستيراد، ومنع إصدار الرخص اللازمة لبناء مرافق الإنتاج الاقتصادي القوي، ومنع العمّال من التوجه للعمل.

والاقتصاد الفلسطيني يعتمد على التمويل الخارجي، من الدول المانحة، والقروض التي كانت صفراً حتى عام 2000، لكنها وصلت اليوم إلى خمسة مليارات دولار. ويعتمد الاقتصاد الفلسطيني على المرتبات التي تضطر السلطة إلى دفعها من موازنتها لجيش كبير فيه أكثر من مئة ألف موظف، وما يزيد على خمسين ألف عنصر أمن، واضطرت السلطة كذلك إلى دفع ملايين الدولارات رُشىً لبعض مراكز القوى والنفوذ لضمان ولائها.

وانتشرت ظاهرة الاستهلاك داخل المجتمع الفلسطيني في السنوات الخمس الأخيرة، التي ترأس خلالها الحكومة سلام فياض، وبات الموظف الفلسطيني يعتمد على القروض من البنوك لشراء السيارة والمنزل والحاجات الأخرى، مستفيداً من التفاهم المتبادل بين حكومة فياض والقطاع المصرفي، وبهدف سياسي لا يغيب عن بال أحد، هو إفساد المجتمع بأنظمة الاستهلاك لإبعاده عن حقوقه وكسر إرادة المقاومة لديه.

وخلال سنوات حكم فياض، انتشر الفساد داخل مؤسسات السلطة، ورفعت أكثر من قضية فساد أمام المحاكم، منها ما هو ضد محمد دحلان وخالد سلام، وملفات بسرقة أكثر من 800 مليون دولار كانت أمام المدعي العام أحمد المغني الذي استقال أخيراً.

الأمر الغريب

الأمر المستغرب هو أن كل هذا الخلل الاقتصادي كان يحصل، ونحن نسمع في الوقت نفسه عبارات الإشادة بقدرة سلام فياض على بناء أسس الدولة وعلى الانتهاء من ذلك.

وفي أسلوب يعكس الاستهزاء والتآمر، كنا نسمع عبارات الإشادة من البنك الدولي وجهات مالية خارجية أخرى ومن الاتحاد الأوروبي بقدرة سلام فياض على بناء أسس الدولة الحديثة، إلى أن نزل الفلسطينيون طول الأيام الأولى من شهر أيلول/ سبتمبر إلى الشوارع، وهم يرشقون صور سلام فياض بالأحذية، ويتهمونه بأنه عميل للأميركان هو وسيده محمود عباس.

وامتدت الإضرابات إلى أهم المدن في الضفة الغربية، واتسعت الاحتجاجات وبدأ سلام فياض يتهم الاحتلال، ومحمود عباس يتهم جهات خارجية تحاصر الفلسطينيين.

بواطن الأزمة يمكن استنتاجها من كلام سلام فياض الذي قال "إن السلطة بحاجة إلى تمويل إضافي"، موضحاً: "نعاني من أزمة مالية طال أمدها نتيجة عدم ورود ما يكفي من مساعدات خارجية، وبما لا ينسجم مع الوضع المالي للسلطة". وأضاف: "لم تردنا مساعدات كافية خلال الأعوام الماضية، الأمر الذي وصل بنا إلى هذه الحال، ونحن نعمل بجهود ذاتية لزيادة الإيرادات وتحسين الأداء الضريبي وخفض النفقات، ولدي مطلق الثقة بأننا سنكون قادرين على الوفاء باحتياجاتنا من مواردنا، لكن بعد أن يزول الاحتلال الذي يحدّ من النمو الاقتصادي في فلسطين بفعل نظام التحكم والسيطرة التعسفي، سواء على المعابر أو غيرها من الإجراءات، بالإضافة إلى الحصار المفروض على شعبنا في قطاع غزة".

ضد اتفاقية باريس

أهم ما في الاحتجاجات الشعبية على الأوضاع الاقتصادية أنها دفعت السلطة الفلسطينية لأول مرة إلى الإقرار بمساوئ اتفاقية باريس الاقتصادية، وهذا له كلام.

فقد طلبت السلطة الفلسطينية من "إسرائيل" رسمياً إعادة التفاوض بشأن اتفاقية باريس الاقتصادية، لضرورة تعديلها في ظل الاحتجاجات التي تعمّ شوارع الضفة الغربية على سياسة الحكومة الاقتصادية وارتفاع الأسعار. وقال وزير الشؤون المدنية الفلسطيني حسين الشيخ: "18 عاماً مضت على اتفاقية باريس الاقتصادية وأصبحت تشكل عبئاً كبيراً على كاهل الشعب الفلسطيني، ما أدى إلى ظروف مالية واقتصادية صعبة جداً"، مشيراً إلى أنه أرسل خطاباً بناءً على طلب من الرئيس عباس إلى وزارة الدفاع الإسرائيلية يطلب "فتح اتفاقية باريس" ويعرض تشكيل لجنة فنية مشتركة للتفاوض بشأن تعديلها".

ورأى مستشار رئاسة الحكومة الفلسطينية، عمر الغول، أن الأزمة الاقتصادية التي تعانيها الأراضي الفلسطينية تتجاوز شخص رئيس الحكومة الفلسطيني سلام فياض. وقال في حديث مع صحيفة "الحياة" إن الشعب الفلسطيني  بات رهينة لـ"اتفاقية باريس" المبرمة بين "إسرائيل" والسلطة الفلسطينية، ورهينة للاحتلال الإسرائيلي وقيوده المفروضة على الاقتصاد الفلسطيني، حيث إن الأوضاع الاقتصادية المتأزمة في "إسرائيل" وارتفاع الأسعار ينعكسان بنحو خطير على الاقتصاد والسوق الفلسطيني".

وفيما اتهم الغول "إسرائيل" بأنها تعمل على تأجيج الأوضاع الفلسطينية، دعا الرباعية الدولية والدول المانحة إلى اتخاذ إجراءات لدعم موازنة السلطة الفلسطينية، وقال: "عندما نقول إن الشعب الفلسطيني واقتصاده رهينان لاتفاقية باريس، فهذا يعود إلى عدم التزام الدول المانحة، وخاصة العربية، تأمين شبكة أمان بقيمة مئة مليون دولار لدعم موازنة السلطة الفلسطينية. إلى جانب هذا، فإن رفع أسعار المحروقات يرفع أسعار كل المواد الأساسية، وهذا ينعكس بنحو خطير على الأوضاع الاقتصادية في الأراضي الفلسطينية".

وحتى ندرك مدى تأثر المواطنين الفلسطينيين بالاقتصاد الإسرائيلي من خلال اتفاقية باريس، نشير إلى أن المجتمع الإسرائيلي ثار منذ عدة أشهر على حكومته بسبب ارتفاع الأسعار، وخاصة أسعار اللحوم والخبز والبيض. وهذا انعكس على المجتمع الفلسطيني؛ فقد أعلن مركز الإحصاء الفلسطيني أن مؤشر غلاء المعيشة خلال شهر آب/ أغسطس 2012 سجّل ارتفاعاً مقارنة مع الشهر السابق في الأراضي الفلسطينية، وهو الأعلى منذ 3 سنوات.

ودفع الارتفاع الكبير في أسعار الخضروات الطازجة بنسبة 15.99%، وأسعار السجائر بنسبة 6.47%، وأسعار المحروقات بنسبة 4.51% الرقم القياسي لأسعار المستهلك ليسجّل ارتفاعاً بنسبة 1.51% خلال شهر آب 2012 مقارنة مع الشهر السابق، بواقع 2.23% في الضفة الغربية، و1.58% في القدس J1، و0.35% في قطاع غزة.

وعند مقارنة الأسعار خلال شهر آب 2012 مع شهر آب 2011 تشير البيانات إلى ارتفاع الرقم القياسي لأسعار المستهلك بنسبة 3.33%، بواقع 5.11% في الضفة الغربية، و3.19% في القدس J1، و 0.92% في قطاع غزة.

وبمقارنة البيانات للأشهر الثمانية الأولى من عام 2012، سجلت أسعار المستهلك ارتفاعاً بنسبة 2.77% مقارنة مع الفترة نفسها من العام السابق، بواقع 3.83% في الضفة الغربية، و2.97% في القدس J1، و0.51% في قطاع غزة.

تباين في الرقم القياسي لأسعار المستهلك على مستوى المناطق الفلسطينية:

الأسعار في الضفة الغربية هي الأكثر ارتفاعاً، حيث سجل الرقم القياسي لأسعار المستهلك خلال شهر آب 2012 مقارنة مع الشهر السابق ارتفاعاً بنسبة 2.23%. نتج هذا الارتفاع بصورة رئيسية من ارتفاع أسعار الخضروات الطازجة بنسبة 18.62%، والسجائر بنسبة 12.60%، وأسعار المحروقات السائلة لأغراض المسكن بنسبة 5.30%، وأسعار المحروقات المستخدمة لأغراض النقل والمواصلات بنسبة 4.20%.

نتائج

بعد الإضرابات في الضفة الغربية وانتقاد السلطة لاتفاقية باريس، نصل إلى النتائج الآتية:

1- إن غضب الأهالي في الضفة انصبّ على اتفاقية باريس وعلى اتفاقية أوسلو، وهذا كان واضحاً من خلال رصد الهتافات واللافتات.

2- إن إسراع السلطة لانتقاد اتفاقية باريس وطلب إعادة النظر فيها ناتج من شعورها بحجم الأزمة القادمة وتضاعف الاحتجاجات.

3- إن إعادة النظر باتفاقية باريس تعكس حتمية إعادة النظر باتفاقية أوسلو، وذلك أنه لا يمكن مناقشة باريس من دون أوسلو.

4- إن الغضب الفلسطيني على اتفاقيتي باريس وأوسلو كان يحمل أبعاداً سياسية؛ فقد هتف الفلسطينيون بسقوط فياض وعباس "عملاء الأميركان"، ورفعوا شعارات تتمسك بحق العودة، في إشارة إلى استحالة الفصل بين ما هو سياسي أو اقتصادي وما هو وطني.