مجلة العودة

فلسطينيو العراق من نكبة إلى نكبة

فلسطينيو العراق من نكبة إلى نكبة
 
 
  محمد المحمدي / اسطنبول
 
 

حدثنا آباؤنا وأجدادنا عن آلام تلك الحقبة من الزمن، وعن كيفية الخروج من فلسطين، وكيف بذلوا أقصى ما تطيقه الأنفس من أجل الصمود على أرضهم والبقاء في ديارهم، ووصفوا ما عاشوه من أوضاع سيئة في الخيام، ثم في ملاجئهم في الدول العربية، وكيف كانت آمالهم معلقة بجيوش الدول العربية التي ساعدتهم على الخروج من وطنهم بدل أن تبقيهم فيه على أمل التحرير كما كان يقال لهم، ومن كانوا يسمونهم أولاد الميتة (اليهود) صار لهم كيان معترف به من قبل المجتمع الدولي. وليس هذا فحسب، بل معترف به من قبل الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، المنظمة التي عهدت إليها مهمة التحرير. وتمرّ الأيام والسنون لنشاهد مسلسل التغريبة الفلسطينية الذي تابعه اللاجئون بملايينهم وبمختلف أماكن وجودهم، وذرفوا الدموع وهم يستذكرون تلك الأيام. هذا لمن عاش تلك الأحداث في وقتها. أما بالنسبة إلى الآخرين، فهو إثبات لصدقية ما حدثنا به أهلنا، سواء على مستوى الصمود والثبات، أو على مستوى التأمر وآليات اقتلاع الفلسطينيين من بلادهم، على أن رسم حدود فلسطين وما يحيطها من دول وضعه  المحتل البريطاني وقرينه الفرنسي في ما سمي ( سايكس – بيكو). وعلى كل حال، إن هذا المسلسل أثبت أن روايات أهلنا صحيحة، وكما يقول أهل علم الرواية، أن ما رووه صحيح روته جماعات يستحيل أن تتواطأ على الكذب. فما سمعناه من أهلنا في العراق هو ما سمعه اللاجئون من أهلهم في سوريا ولبنان والأردن.

قد يقول قائل لو أنهم بقوا في أرضهم لما حصل لهم ما حصل مذ الاقتلاع الأول من فلسطين عام 1948. والأغرب من هذا القول، هو ما يتبناه مفكرون ومناضلون من مختلف التيارات، سواء الوطنية، أو الإسلامية أو غيرها، بأن الشعب الفلسطيني قد وعى المؤامرة ولم يخرج من دياره في حرب عام 1967 وتشبث بأرضه ولم يقع في الفخ، وهذا أمر محمود وجيد، لكنه في المقابل، وبسبب جعل الأمر مقارنة مع ما حصل عام 1948، فكأنهم يقولون إن الشعب الفلسطيني لم يكن يعي ما يحصل له قبل عام 1967، وتناسوا نضال هذا الشعب الصابر وتضحياته بوجه الاحتلال البريطاني وتنامي أعداد الصهاينة في فلسطين، ونسوا الثورات، ونسوا المؤتمرات العلمائية في القدس والقاهرة والتشكيلات الجهادية الإسلامية، سواء ما تشكل من الفلسطينيين أو من محيطهم العربي من الذين عرفوا نية العالم الغربي الظالم في إنشاء هذا الكيان قبل إعلانه من قبل الاحتلال البريطاني لفلسطين. وبدل أن يحمّلوا المسؤولية للمسبب الحقيقي ومن ترك الشعب الفلسطيني أعزل وحيداً أمام الآلة العسكرية الحديثة للعصابات الصهيونية التي ورثها من الاحتلال البريطاني، ألبسوا شعبهم ثوب الجبن وثوب الغباء والجهل، وهذا أمر مؤسف حقاً، وأقول وكلي ثقة إن من يقول هذا الكلام لم يشهد حرباً، ولم يشمّ رائحة بارود في حياته. ثم إن العيب ليس على من  لجأ إلى أخيه خوفاً من انتهاك عرضه، بل العيب على من ترك شرذمة ببضعة آلاف تسيطر على قبلة المسلمين الأولى. ولكي نقارب الأمر مع وقتنا الحاضر، فلننظر إلى مشروع المقاومة والتحرير، مَن الذي يؤيده، ومن الذي يقف ضده؟ ثم انظروا كيف تكون مصافحة الصهاينة بالابتسامات العريضة وعقد اتفاقيات السلام، ثم يقولون إن الفلسطينيين لو أنهم صمدوا وبقوا في أرضهم لما حصل لهم ما حصل. خسئتم كنتم من كنتم، وضعتم لحى على وجوهكم أو برنيطة على رؤوسكم؛ ففلسطين وفية لمن سقاها بدمه، وأنتم أول من نحرها ونحر أهلها؛ فالمشهد قد شاء الله أن يعيده مع لاجئي العراق، وإن كانت الصور في عام 1948 نادرة وبالأسود والأبيض، فإنها كانت بعد عام 2003، عام احتلال العراق، متوافرة وملونة، وتظهر لون الخيام الحقيقي، ومن لم يشهد ما شهده أهله في عام 1948 من بؤس وشقاء، شهده في القرن الواحد والعشرين، ولكن هذه المرة بيد مختلفة، هي امتداد لليد التي صنعت الرحى التي قتلت عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وإن كانت الأنظمة العربية قد فتحت حدودها المصطنعة بطلب من أبو ناجي (الاحتلال البريطاني)، مستغلة مشاعر الشعوب العربية تجاه فلسطين لاستكمال خطة إخراج الشعب الفلسطيني من أرضه، واستقبلت الفلسطينيين المقتلعين من أرضهم عام 1948، فإن هذه الأنظمة وقفت حارساً على حدود سايكس بيكو بعد عام 2003، ومنعت الفلسطينيين الهاربين من القتل البشع والاضطهاد المر والاعتقال المفبرك، فافترشوا الأرض وناموا مع دوابّ الأرض ونصبوا خيامهم بعد 55 عاماً من نصبهم للخيام أول مرة، ثم جاءتهم المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، المسؤول الأممي عن حمايتهم، وقادة مشروع شتاتهم الجديد حول العالم في نكبة جديدة، فصرخ فلسطينيو العراق وتشبثوا بهذا وذاك، ونادوا حتى بُحَّت حناجرهم، واعرباه واإسلاماه وارحمتاه، لكن ما من مجيب. وتمرّ الأيام والسنون ويُكتب عن فلسطينيي العراق وما حصل لهم، باعتبار ما حصل لهم مأساة جديدة تضاف إلى سجل مأسي الشعب الفلسطيني في الشتات، وتعقد الندوات وتوثق الدراسات بأن ما حصل لفلسطينيي العراق هو بمثابة إنذار للاجئين وتنبيه لما يحيط بهم من خطر في كل أماكن وجودهم؛ فلا غطاء قانونياً ولا صفة محددة ولا جهة تحمي ولا مسؤول واضحاً عنهم. ثم حلت الكارثة وحصل ما حصل في سورية، وكالعادة ووفق القاعدة الثابتة بأن الفلسطيني أول الخاسرين مع أي تغيير سياسي في المنطقة. ويشرد لاجئو سورية، وتعاد المأساة من جديد، ويهيم الفلسطينيون على وجوههم، وينصبون خيامهم من جديد. ومن فاته ما عاشه أهله في عام 1948 ولم يتابع ما حصل لفلسطينيي العراق بعد عام 2003، شاهد ما حصل للفلسطينيين عام 2012. ولعلنا نبرز المشترك الأهم في هذه النكبة الجديدة، وهو اليد التي عبثت بوضعهم وشربت من دمائهم كما شربت من دماء الفلسطينيين في العراق. يضاف إليه من أعمى الله بصيرته عن الحق وما زال يردد بـ "لو أن الشعب الفلسطيني لم يخرج عام 1948 لما حصل له ما حصل".