مجلة العودة

محمد مشينش:فلسطينيو القارات (العراق) - في تركيا

 فلسطينيو القارات (العراق) -  في تركيا
محمد مشينش/اسطنبول
 
 

مجاميع من اللاجئين الفلسطينيين الهاربين من الظلم والقهر في العراق (الجديد)، حطت رحالها في تركيا بعد رحلة عذاب في قبرص وسورية وغيرهما من الدول التي لم يستطع اللاجئون أن يشقوا طريقهم فيها. مجاميع صغيرة متوزعة بالعشرات بين مدن الشرق والجنوب التركي، يعيشون في بيوت متواضعة رخيصة الإيجارات، خارجها ليس كداخلها. أما الخارج، فليس لهم دخل فيه، والداخل تصنعه سنوات من العذابات ومن التمارين الصعبة على تجاوز الصعاب، إضافة إلى دورات مكثفة لتجاوز الأزمات النفسية تلقيها عليهم الأستاذة (حياة) بدروس ليست ممتعة، ولكنها جعلتهم يحتملون المستحيل ليصنعوا واقعاً يعيشون فيه. والعيب الوحيد في هذه الدروس أنها ليست اختيارية، بل هي جبرية مفروضة على كل لاجئ، وليس أي لاجئ، اللاجئ الفلسطيني، وربما في بعض الأحيان الهارب من العراق حصراً. في داخل هذه البيوت صنعوا حياتهم الخاصة، هدفهم أن يكسبوا أطول فترة ممكنة من البقاء للحصول على قبول من إحدى الدول الغربية المضيفة ليبدأوا حياتهم من جديد.

لم أصدق ما حدثوني عنه في اتصالاتهم، وهم يعرضون لهمومهم وآلامهم. وعزمت على أن أتوجه إليهم في المدينة التي يعيشون فيها، مدينة غازي عين تاب التي تبعد عن إستنبول ما يقرب من 900  كيلومتر.

وصلت إليهم متأخراً في الثالث والعشرين من رمضان في ليلة من ليالي رمضان التي لا تنام. وبعد الترحيب وشرب الشاي وعلى الطريقة العراقية التي اكتسبوها من سنين لجوئهم في العراق .

 بدأت اللاجئة (ش) بالكلام.

 سألتني: هل ما تراه من أثاث في البيت يوحي بأننا ذوو أموال؟

وبإجابة سريعة قلت: لا. قالت: هل ذنبنا أننا نحن الفلسطينيين نحب أن ننظف مكاننا ونرتب أمورنا؟

 قلت: وما العيب في النظافة والترتيب؟ أما الأثاث، فهو أثاث قديم وفيه عيوب ظاهرة وقماشه مهترئ من أطرافه، وأما النظافة والترتيب فهي حال الفلسطينيين أينما حلّوا، وهو ليس غريباً عليهم مهما كانت الظروف التي يعيشون فيها. وما زلت أذكر عندما زرنا خيام اللاجئين في مخيم الوليد مع وفد منظمة الإغاثة الإسلامية، وما إن دخلوا حتى قالوا متسائلين: هل هذه خيمة!!؟، فلمسات فنية بسيطة صنعت من ذلك الشيء الذي يطاردنا بعموده الأوسط وبحباله الجانبية المشدودة على جنبات الطريق وكأنه أم العنكبوت، أو أحد المخلوقات من عالم الخيال العلمي، وقد فغر فاه ينتظر دخول فريسته. صنعوا في بطن هذا الكابوس جدراناً من الورود، واختاروا ألواناً زاهية لركن نوم الأولاد، وفرشوا مساحة أخرى بفراش يوحي بالتراث الفلسطيني لاستقبال الضيوف وشرب القهوة معهم.

تجاذبنا أطراف الحديث حول واقعهم والمستقبل الذي ينشدون، والحق أقول إن واقعهم الذي يعيشون فيه لا يقل ألماً عن الخيمة في صحاري العراق وعلى الحدود، ولكنه ذو وجه مختلف في تركيا.

فوضعهم القانوني غريب، فالدولة تمنحهم الإقامة بناءً على قبولهم لاجئين من قبل الأمم المتحدة، لكنها لا تسمح لهم بالعمل، والأمم المتحدة (مفوضية اللاجئين) لا تقدم لهم أي نوع من أنواع الدعم. أما مكان السكن، فتحدده الدولة بخيارات بين خمس محافظات تركية غير رئيسية، إضافة إلى شرط ذهاب اللاجئ إلى قسم الشرطة مرتين في الأسبوع لتوقيع وإثبات وجوده في المدينة (سجن كبير فيه حرية الحركة).

أما الإعانة الصحية، فقد أوقفتها المفوضية العليا لشؤون اللاجئين عنهم من دون معرفة الأسباب، رغم أن العلاج في تركيا مكلف جداً إلى الحد الذي يضطرهم في بعض الأحيان أن يحتملوا آلامهم، وأن لا يذهبوا إلى الطبيب بسبب المصاريف وأجور الدواء المرتفعة.

أما والي المدينة، فهو يخصص إعانة مادية بسيطة للعوائل الفقيرة، وكلمة الفقيرة هذه لها ميزان خاص كما يبدو هناك. وهنا فهمت مقصد اللاجئة (ش) عندما سألتني عمّا أراه من حالهم؛ إذ إن لجنة الوالي قررت وقف المساعدة عنهم لأنهم ليسوا فقراء، طبعاً بمعيار اللجنة الموقرة، التي تريد منهم أن يعيشوا في حي آخر، هو الحي الصناعي حتى يعتبروهم فقراء. وما أدراك ما الحي الصناعي؟ روائح ومواد سامة تنبعث من المصانع والورش، ومن كراجات السيارات، وخصوصاً المُعدّة لإعادة دهان السيارات. أما في الشتاء، فإن الحال أسوأ؛ فالسموم المنبعثة من احتراق الفحم الحجري تغطي هذا الحي بالكامل؛ إذ إن الغاز لم يصلهم إلى الآن ويعتمدون على الطرق القديمة في التدفئة.

السكن في هذا الحي هو عنوان الفقر كما يريد الوالي، وفي الوقت نفسه هو عنوان الموت البطيء للاجئين؛ فقد زرت هذا الحي ودخلت بيوت أحد اللاجئين، فوق سطح أحد الأبنية السكنية، في الطبقة السادسة، وبلا مصعد، وبواقع غرفة واحدة ومنافعها. أما الأثاث، فهو عبارة عن خزانة ملابس موجودة أصلاً في الحائط، إضافة إلى فرشة واحدة للنوم وسجادتين للصلاة والجلوس معاً، مع خزانة صغيرة وضع عليها تلفزيون صغير. أما أثاث المطبخ، فهو عبارة عن طباخ صغير، ومعدات مطبخ بسيطة من البلاستيك. هذا هو كل ما في البيت من أثاث.

وقبل أن يضعوا على مائدة السحور مما أنعم الله به عليهم وبكرمهم المعتاد المكتسب من أجدادهم في فلسطين، قلت لهم إن السؤال البديهي الذي يدور في الذهن: من أين تكسبون قوت يومكم؟

فقال اللاجئ (ع): الرزق من الله عز وجل، وردد الآية: {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال أنّى لك هذا قالت هو من عند الله}، واستطرد قائلاً: لا يمكن أن نبقى هنا من دون عمل ويجب أن نعمل حتى نعيش، ولأننا ممنوعون من العمل، فإننا نضطر إلى أن نعمل بشكل غير قانوني وفي الأعمال الشاقة البعيدة عن عيون الشرطة، في مخازن التحميل والتفريغ وفي أعمال البناء الشاقة، وفي كراجات غسل السيارات، وهو ما أثر على صحتهم بشكل كبير.

 ورغم هذه الصعاب، ورغم تخلي إخوان الدين والدم عنهم، إلا أنهم يصرون على الوصول إلى هدفهم في بناء حياة جديدة لهم، رافضين اليأس والاستسلام.

أين يذهب اللاجئ الفلسطيني الهارب من العراق، وتحت أي سقف يستظل؟ سؤال يزداد تعقيداً كلما طال وقت بقاء اللاجئين من دون مكان يحتضنهم ويمنحهم حقوقهم الإنسانية!!؟

في مدينة أضنه

المحطة الثانية كانت في مدينة أضنه على بعد أربع ساعات بالسيارة من مدينة غازي عين تاب.

عشرات اللاجئين الفلسطينيين تجمعوا في هذه المدينة لأسباب تتعلق أولاً برخص إيجارات البيوت، وثانياً بطبيعة الجو المقارب للعراق من حيث درجات الحرارة في الشتاء. دخلنا إلى بيت (م. ص.) حيث استقبلنا إلى مائدة الإفطار الرمضانية مضمنين هذه المائدة أكلة الفلافل، وتبادلنا أطراف الكلام حول أيام بغداد، وما حصل فيها، مروراً بأيام الظلم في ما يسمى "العراق الجديد"، العراق الذي صاغته قوات الاحتلال الأميركي بالتعاون مع الطائفيين.

لم تختلف معاناتهم في مدينة أضنه عمّا رواه اللاجئون في مدينة عين تاب؛ فالقوانين الغريبة وتسجيل الحضور الأسبوعي، وإشكالية المراجعات الطبية، كلها كانت حاضرة في كلامهم. والسؤال الذي يردده الجميع: لماذا هذه المعاملة، وأين المسؤولون الفلسطينيون، ومن المسؤول عنا، وكيف نخرج من هذه الدوامة التي نعيش فيها، وكيف نصل إلى برّ الأمان، وكيف نربي أولادنا، وكيف ننام من دون أن نفكر في أن هناك من سيخرجنا قريباً إلى مكان آخر لنبدأ المعاناة من جديد وبلون جديد؟