مجلة العودة

هنا غزة.. يوميات عائد إلى فلسطين

بيروت - رافت مرة

 

في بداية شهر كانون الأول/ ديسمبر 2012، اتصل بي أحد الأصدقاء عارضاً عليّ الانضمام إلى مجموعة من الشباب "النشطاء"، الذين يريدون الذهاب إلى قطاع غزة، للاحتفال بالنصر الذي حققته المقاومة والشعب الفلسطيني، وللمشاركة في الاحتفال الذي تقيمه حركة حماس لمناسبة مرور ربع قرن على انطلاقتها المجيدة.كانت الدعوة فرصة تاريخية ولحظة مميزة في الحياة، ولم أتردد في قبول الدعوة وفي الإجابة بـ"نعم".

في لحظات استرجعت ذاكرتي التاريخَ، واستعادت حكايات والدي وقصص والدتي.

في لحظات عدت إلى مسلسل النكبة التي حصلت عام 1948، واستعدت الروايات التي حكاها لي والدي ووالدتي عن تلك المرحلة، كيف كانت تقصف القرى، وكيف كان الناس يقاومون، وكيف خرجت النساء والأطفال، وكيف استهدفت غارة صهيونية منزلنا الذي يقع على مشارف البلدة.

كيف لجأنا إلى القرى المجاورة، وكيف وصلت العائلة إلى لبنان، وكيف عاد والدي إلى منزلنا مجدداً ليحضر بعض ما خبّأه.

استعدت مشاهد بانورامية عن قريتنا سحماتا في قضاء مدينة عكا في شمال فلسطين، أشجار الزيتون، ونبع الضيعة، والبِركة في الوسط، وساحة القرية، وزراعة الدخان، وجمال الأودية والجبال وكيفية الحياة في القرية، والعمل وإعداد الطعام والأعراس، واستقبال الضيوف، وقصص الثوار والنضال السياسي.

على البوابة

لا مجال للتردد، فكرة العودة إلى الوطن، حلم عشنا معه طوال حياتنا، وعهد قطعناه لآبائنا، ووعد أخذناه على أنفسنا، ومشروع سياسي ووطني عملنا له منذ بداية وعينا السياسي.

كان أحب شيء على قلوبنا بعد تحرير جنوب لبنان عام 2000، أن نذهب إلى الحدود، ونجلس على التلال نشاهد فلسطين الحبيبة.

كانت بوابة فاطمة في جنوب لبنان، تمثل لنا رمزية العودة إلى الوطن.

أول مرة ذهبنا إلى هناك مع والدتي الحاجة أم العبد، رحمها الله، جلسنا على حجارة قبالة فلسطين، كنا نمدّ أيدينا تحت السياج الشائك كي تلمس تراب الوطن، ونميل بوجوهنا نحو فلسطين نتلمس الهواء الآتي من الجنوب.

يومها، أصرّ ابني ياسر ــ وكان يومها ابن سبع سنوات ــ وابنتي سنا ــ وكانت ابنة ثلاث سنوات ــ على أن نبقى جالسين على الحجارة على حدود الوطن.

غادر جميع من جاء في الرحلة، وبقينا يومها نقنع الأطفال بالعودة.

اليوم نحن ذاهبون إلى فلسطين.

الرحلة

كنا ندرك أن الرحلة إلى غزة عبر القاهرة ستكون متعبة وشاقة، نظراً إلى الإجراءات المصرية، لكن لم نكن نتوقع أن تطول الرحلة لنحو 13 ساعة!

من بيروت إلى القاهرة، نمضي ثلاث ساعات في مطار القاهرة، بسبب إجراءات الفحص الأمني على بعض المشاركين.

ينتظرنا باص على مدخل المطار، تواكبه مجموعة أمنية رسمية، نستقل الباص إلى الفندق، نبقى في الفندق ثلاث ساعات، ثم ننطلق الثالثة فجراً باتجاه غزة.

من جهاز أمني مصري إلى آخر، من مواكبة أمنية إلى أخرى، نصل معبر رفح المصري، الساعة الثانية عشرة ظهراً، أي نحو تسع ساعات، وهي فترة طويلة جداً.

نبقى في المعبر ساعتين، ثم نخرج من المعبر المصري باتجاه فلسطين.

هنا فلسطين

شُيّد المعبر المصري في رفح بطريقة غريبة، فأنت داخل المعبر، تحيط بك أسوار عالية، تنتهي ببوابة حديدية كبيرة، يخرج منها الباص، فتطل فجأة على فلسطين.

لم يتقصد مشيّدو المعبر منحك هذا الإحساس بالمهابة والفخامة، بل صنعوا ذلك لحاجات أمنية!

يفتح لك جنود حرس الحدود المصرية الباب الحديدي الأسود الكبير، فتدخل منه إلى فلسطين.

هنا فلسطين.

هنا المهابة والجلالة.

هنا التاريخ يتحدث والأرض تتجلى بالكبرياء.

هنا القدس.

هنا الأقصى.

هنا الأرض الرائعة بلون الحناء.

هنا الشهداء، هنا الجرحى. هنا الأسرى.

هنا للحضارة سرّها وللجغرافيا حكايتها.

هنا بوابة العالم.

هنا آسيا. هنا أفريقيا.

هنا مركز الكون.

هنا للشجر سرّه الخالص، وللزهر عطره المرمز.

هنا تدخل النسمات إلى خلايا جسدك، فتحيلها خضراء يانعة.

هنا الإنسان الذي صمد ستة آلاف عام.

هنا هزم الرومان، والفرنجة، ونابليون، والإنكليز، والتتار، والمغول وبنو صهيون.

هنا أناس احترفوا الصمود وامتهنوا المقاومة.

هنا المقاومة معادلة كيميائية تتغلغل في الخلايا.

وهنا الانتصار جينة وراثية يتناقلها الفلسطينيون من جيل إلى جيل.

هنا يتعلم العالم سر الصمود.

وهنا نلقّن الكون أسرار المقاومة.

هنا فلسطين.

هنا ننسج من دمنا شعارات للمرحلة، ونخطّ من عرقنا مشروعاً سياسياً للأمّة، هنا غزة!

هنا هؤلاء المحاصرون الذين لو فتحت لهم الأبواب لاحتلوا العالم!

 

ما إن نغادر البوابة المصرية، حتى تقع عيوننا على لافتة بيضاء كبيرة وضعت في المعبر الفلسطيني كتب عليها "هنا فلسطين".

تخرج القلوب من أماكنها، ترتفع التكبيرات والتسبيحات والتهليلات!

كثر عبّروا بألسنتهم ومشاعرهم، وآخرون آثروا الإنصات للخشوع، وفضّلوا التأمل، وأرادوا معايشة هذه اللحظة بالقلب الهادئ المأخوذ بسحر الأرض ورمزية الإنسان.

في معبر رفح الفلسطيني، كل شيء مميز: الاستقبال، التسهيلات، الخدمات، الابتسامات، كل شيء يقدّم لك في المعبر بسرعة حتى يساعدوك على دخول الوطن.

لا إجراءات ولا تعقيدات، لكنّ الشباب المشاركين في الباصات أصروا على النزول حتى شاهدوا السيارة التي كان يستقلها الشهيد القائد أحمد الجعبري.

في فلسطين

 تدخل إلى فلسطين، تشعر بالفرح والسعادة، تكاد تطير من مكانك، لا شيء في العالم يشبه فلسطين، بمائها وهوائها، ببرّها وبحرها.

الأراضي الزراعية تحيط بك، المنظر جميل، تدخل إلى المدن والبلدات، الإشارات تشرح لك المشهد: خان يونس – عين السلطان – القرارة...

بعد المرور بوسط القطاع تصل إلى مدينة غزة، آثار القصف الإسرائيلي بادية في كل ناحية.

بنايات مرتفعة، شوارع واسعة، لكنها تفتقر إلى البنية التحتية المناسبة.

الشارع البحري رائع، حركة الأشغال تجري فيه جيداً.

تدخل إلى مكان الاحتفال، مئات الآلاف في كل مكان، كل من في غزة يرحب بك ويساعدك.

نصل إلى الفندق، ثم نغادره مباشرة لنجول في شوارع غزة، وندخل الأسواق.

في اليوم التالي، نجول على الشوارع والأحياء، المجلس التشريعي، مركز رشاد الشوا، منزل القائد المؤسس الشهيد الشيخ أحمد ياسين، مقر الحكومة المدمّر، ساحة الساري.

يصرّ صديقنا على أن يأخذنا إلى الغداء، ندخل مطعم "معتوق" قرب المجلس التشريعي، الطعام لذيذ والنظافة مميزة.

نواصل جولتنا على الأحياء والشوارع والأماكن.

نشعر في غزة بالحب والكرامة، الناس لطفاء ودودون، تحسّ بأن الأرض تحتضنك.

أيام قليلة نجول في مختلف نواحي غزة، نسهر مع الشباب في بني سهيلة، والدعوة على العشاء لا تفوَّت مع الرجال الصالحين من أهل العمل العام والصحافة والمقاومة.

في اليوم التالي، نجول على الحدود مع الاحتلال، ونلمس إنجازات المقاومة والمكاسب التي حققتها بعد العدوان الأخير.

ندخل إلى غزة، ويدخل قطاع غزة إليك، تغادر فلسطين، لكنها لا تغادرك، فهي تسكن فيك دائماً وأبداً. ♦