مجلة العودة
السكّين وأعناق العصافير
العودة/خاص
 في التاسع عشر من أيار سنة ألف وسبعمئة وثمانية وتسعين، خرجت قوات معززة من الجيش الفرنسي من مدينة طولون، ووُضعت تحت قيادة ضابط صغير السن آنذاك يدعى نابليون بونابرت، وكان هدفها احتلال مصر وبلاد الشام للسيطرة على الطريق التجارية للهند ورفع شأن فرنسا لتكون دولة عظمى واستعمارية في أوروبا. وقبل وصول قوات الجيش الفرنسي إلى مصر، احتلت جزيرة مالطة التي كانت تحت حكم فرسان القديس يوحنا وتحت حماية قيصر روسيا ومن ثم تابعت الحملة سيرها نحو مصر.

وفي الحادي والعشرين من تموز نزلت القوات الفرنسية في ميناء الإسكندرية، وفي أولى المعارك بالقرب من الأهرام – معركة الأهرام – اشتبك الجيش الفرنسي بقيادة نابليون مع قوات المماليك، وكان الانتصار حليف القوات الفرنسية التي استطاعت فرض نفوذها على مصر.

وأول شيء بدأ به نابليون هو أن وزع على الأهالي منشوراً بدأه  بالقول: "بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله لا ولد له ولا شريك له في ملكه".

لقد ظهرت سياسة المراوغة من البداية بالبسملة وإعلان التوحيد الذي يتنافى مع معتقد نابليون، ولكن لعله يصادف قلوب المتعاطفين الذين ربما يعتقدون أن نابليون أصبح من المسلمين المخلصين للإسلام. 

ثم راح نابليون يطمئن الأهالي إلى حرصه على دينهم – لا كما يدّعى بعض المفترين – وتخليص حقوقهم من المماليك الظالمين الذين استأثروا بخيرات مصر وراحوا يستمتعون بالجواري الحسان والخيول العتاق ويقيمون في الدور الواسعة. وزعم أيضاً أنه سيعطي المصريين حقهم – على مبدأ المساواة الذي أعلنه الإسلام – في الحصول على الوظائف والمناصب والمراتب العليا في الدولة قائلاً: "يا أيها المصريون قد قيل لكم: إنني ما نزلت بهذا الطريق إلا بقصد إزالة دينكم فذلك كذب صريح فلا تصدقوه وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعإلى وأحترم نبيه والقرآن العظيم وقولوا أيضاً لهم: إن جميع الناس متساوون عند الله وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط، وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب فماذا يميزهم من غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بكل شيء أحسن فيها من الجواري الحسان والخيل العتاق والمساكن المفرحة فإن كانت الأرض المصرية التزاماً للمماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم ولكن رب العالمين رؤوف وعادل وحليم ولكن بعونه تعإلى من الآن فصاعداً لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية وعن اكتساب المراتب العالية، فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيدبرون الأمور وبذلك يصلح حال الأمة كلها".

ولم يقتصر نابليون على ذلك، لكنه ادعى أن نزوله - بجنوده الفرنسيين (المسلمين) - في رومية الكبرى واحتلاله لجزيرة مالطة في طريقه إلى مصر إنما كان بهدف تخليصهم من النصارى الذين يعتقدون أن عليهم أن يقاتلوا المسلمين بتكليف من الله:

"قولوا لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي الباب الذي كان دائماً يحث النصارى على محاربة الإسلام ثم قصدوا جزيرة مالطة وطرودا منها الكواللرية الذين كانوا يزعمون أن الله تعإلى يطلب منهم مقاتلة المسلمين".

ولم يمض وقت طويل على توزيع المنشور حتى ظهر التناقض الحاد بين القول والفعل، فقد توجه نابليون لاحتلال بلاد الشام، وفي السابع من آذار عام ألف وسبعمئة وتسعة وتسعين سقطت مدينة يافا بأيدي الفرنسيين، بعد مقاومة جبارة وباسلة لسكان المدينة وحاميتها. وبعد استسلام المدينة واحتلالها ارتكب نابليون وجنوده أبشع أعماله قسوة ووحشية حين أعدم ما يزيد على ألفين من حامية يافا وأعدم آلاف الأسرى الآخرين بمجزرة رهيبة ارتكبتها القوات الفرنسية، ويقدر عدد الذين أعدموا في يافا بنحو أربعة آلاف أسير من الجنود والمدنيين.

وبعد مضي مئتي سنة على منشور نابليون، نرى التاريخ يعيد نفسه في خطاب للرئيس الأمريكي أوباما في جامعة القاهرة عام ألفين وتسعة، في الوقت الذي كانت فيه أميركا تحتل العراق وتنكل بأهله أي تنكيل وتحتل أفغانستان وتقصف بيوت الآمنين في باكستان وتروع المسلمين في شتى أنحاء المعمورة. ولكي لا نطيل، نعرض بعض الفقرات التي جاءت في الخطاب: "لقد أعطتنا الثقافة الإسلامية الكثير. وكان الإسلام جزءاً من تاريخ أميركا، ومنذ تأسيسها، ساهم المسلمون في الكثير من المجالات وفازوا بالكثير من جوائز نوبل وحملوا الكثير من الرايات في الألعاب الأولمبية ودافعوا عن الكثير من المبادئ.

لقد عرفت الإسلام عن طريق جبهات عدّة، ومسؤوليتي أن أدافع عن الإسلام.

أميركا لن تكون بحالة حرب مع الإسلام، ولكننا يجب أن نحل مشكلاتنا من خلال الشراكة".

إن تضارب الأقوال مع الأفعال يذكرنا بقول الشاعر العربي (الطويل):

فأنتِ كذبّاحِ العصافيرِ دائباً

وعيناهُ من وجدٍ عليهنَّ تهملُ

فلو كان من رأفٍ بهنَّ ورحمةٍ

لكفَّ يداً ليستْ من الذبح تعطَلُ

فلا تنظري ما تهملُ العينُ وانظري

إلى الكفَّ ماذا بالعصافيرِ تفعلُ

فلننظر إلى أيدي أعدائنا لا إلى عيونهم عسى ألاّ تأخذنا العاطفة فنبكي على ذباح العصافير وننسى رقابنا بين يديه تنتظر مرور السكين.