مجلة العودة

قراءة في وثيقة: ذكريات النكبة... حينما تتكلم الجراح يصمت الجميع - محمد ياسر عمور

هجرة عرب المنسي في 6/4/1948
ذكريات النكبة... حينما تتكلم الجراح يصمت الجميع
 

محمد ياسر عمرو/ لندن

ونحن نعيش الذكرى الثالثة والستين للجريمة الأبشع على هذا الكوكب، نستذكر مرارة الإبعاد والتهجير، وألم الغربة والفراق الذي وقع على من غُصبت بيوتهم وديارهم ومزارعهم وأموالهم أمام عيونهم. رافق هذه الأحداث الجسام ضعف في توثيق الأحداث وتسجيلها بتفاصيلها، فلم يصل لنا من مذكرات من عاصروا النكبة إلا النزر اليسير، ونحن اليوم أمام جزء من وثيقة مهمة ربما فُقد الجزء الأكبر منها، وهي توثق مسيرة التهجير ورحلة العذاب التي عاناها عرب المنسي يوماً بيوم، والجزء الذي بين أيدينا يرسم لنا بعض معالم عملية التهجير، ومن هذه المعالم:

عنونت الوثيقة بـ «مذكرة مهاجرة عرب المنسي» (1) فكاتب الوثيقة عنونها وسماها مذكرة، وفي ذلك دلالة على وعي من المؤرخ والكاتب بأهمية ما يكتب ويسجل. ويبدو الكاتب من وجهاء عرب المنسي ومثقفيهم؛ لأنه يتحدث عن هجرة مجموعة وقبيلة، وكتابته وتأريخه للأحداث يدلان على ذلك.

أكدت الوثيقة الرأي الذي جرى تبنيه مسبقاً، أي أن أحداث النكبة بدأت قبل تاريخها بسنوات وأشهر، وما تاريخ النكبة إلا نتيجة لهذه الأحداث، فأرخ الكاتب الوثيقة بتاريخ 6/4/1948 أي قبل تاريخ النكبة بشهر تقريباً، ليؤكد هذا التاريخ انتهاج نهج التشريد والذبح والتقتيل قبل النكبة تمهيداً لإعلان سقوط فلسطين بيد المحتل وقيام دولة الكيان المجرمة.

لم يخرج المهاجر الفلسطيني من أرضه إلى قصد معلوم أو وجهة واضحة في كثير من الأحيان فتقول الوثيقة: إن عرب المنسي قضوا يوماً وليلة في الجبال، ثم ذهبوا إلى اللجون (2) وقضوا فيها ثلاثة أيام، ثم إلى وادي تحنك قضوا فيه خمسة أيام، ثم ذهبوا إلى جنين وقضوا فيها ثلاثة عشر يوماً، ونقلوا إلى برقين من 28/4/1948 قضوا فيها خمسة عشر يوماً ثم رجعوا إلى اللجون التي قضوا فيها ثلاثة عشر يوماً ثم رجعوا إلى كفيرت (3) في 3/6/1948، وفي 22/10/1948 ذهبوا إلى جنزور (4).

لم تذكر الوثيقة ظروف الإقامة في محطة من تلك المحطات ولا آلية التنقل أو وسيلتها، ولا كيفية تدبير لقمة الحياة والعيش، التي أكاد أجزم بأنها مآس مركبة يشق على العادِّ إحصاؤها.

ذكر كاتب الوثيقة أثناء وصفه هذه الحالة من التنقل عبارة: «وهم زاهقين الحياة» ليعبّر هذا اللفظ الموجز عن معاناة المهجرين، وكأن الحياة لم تعد تعني لهم شيئاً، فهي والموت سيان، ليس زهداً إنما لمرارة الاقتلاع من الأرض والوطن والرمي بلا مصير.

ذكرت الوثيقة عبارة «ثم نقلوا إلى برقين» في إشارة إلى وجود جهة أو قيادة أو صاحب قرار ينقلهم، ولم أجد في أدبيات تلك الفترة ما يشير إلى وجود قيادة تنقل المهجرين وتوجههم وتحدد لهم وجهتهم. والذي أفهمه أن قرارات تصدر عن المجموعات المهاجرة المشردة تتسم بالخوف والتردد كانت وراء قرارات التنقل، ولعل الشائعات وغياب القيادة كانتا سبب التنقل المتكرر.

تذكر الوثيقة جزءاً آخر من المعانة أغفله كثير من الباحثين في أحداث النكبة، يتعلق بمن قضوا من المرض والتعب والإعياء والجراح أثناء الهجرة، قال الكاتب: «كل هذا مضى عليهم وكان الحاج موسى والدنا «مريض» إلى حين تاريخ 28/10/1948 ثم توفي».

كتبت الوثيقة بخط واضح وبلغة سليمة وواضحة، وبتوثيق جيد وحساب متقن.

أخيراً، مخطئ ومجرم من يظن أن الأجيال ستنسى، وأن الحقوق ستمحى.

الهوامش:

(1) إلى الجنوب الشرقي من مدينة حيفا، وتبعد عنها نحو 30 كيلومتراً وترتفع 125 متراً عن سطح البحر، ويطلق عليها أيضاً عرب بنيها. بلغت مساحة أراضيها 12272 دونماً. قامت المنظمات الصهيونية المسلحة بهدم القرية وتشريد أهلها البالغ عددهم عام 1948 نحو 1392 نسمة، وكان ذلك في 6⁄4⁄1948، ويقع جزء من مستعمرة «مدراخ عوز» التي أنشئت عام 1952 على أراضي القرية.

(2) بفتح أوله وضم الجيم مع التشديد. قرية تبعد (18) كيلا شمال غرب جنين. وكانت مقسمة: الخربة الفوقا والخربا القبلية والخربة التحتا، وخربة ظهر الدار. تكثر فيها العيون، ومنها عين الخليل، وعين الست ليلى. قدر عدد السكان سنة 1945م (1103) نسمات أصلهم من أم الفحم. اغتصبها الصهاينة سنة 1948م ودمروا بيوتها، وأقاموا في ظاهرها مستعمرة (مجدو).

(3) قرية كفيرت تقع غربي جنين وشرقي يعبد وتعود تسميتها إلى أصول كنعانية قديمة حيث كانت تسمى كفارت.

(4) على طريق نابلس جنين، وعلى بعد 4 كم من قباطية.