مجلة العودة

انتصارات لها ما بعدها.. في زمن الهزائم

انتصارات لها ما بعدها.. في زمن الهزائم

لا يجانب الصواب كل من أراد أن يطلق على زماننا العربي، بل والإسلامي، بأنه زمن الهزائم والنكسات. فلا يمكن أن يدعي أحد أنّ احتلال فلسطين الذي أكمل ستة عقود من قبل عصابات الصهاينة، بغير نصر للمشروع الكولونيالي على أصحاب الأرض بالمعنى المباشر للربح والخسارة. ولحقت العراق بأختها فلسطين، باحتلال أمريكي بطريقة أشنع وأكثر إيلاماً من حيث عدد الضحايا وخسارة المخزون الاستراتيجي للأمة العربية من ناحية القوة والعتاد لأكبر الجيوش في المنطقة، حيث استهدفته القوات الأمريكية وحليفاتها، وانهار وكأنّ شيئاً لم يكن. وقد لازم هذا الضياع جثوم أنظمة عربية استمرأت الهزيمة ورضيت بإملاءات القوى العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة. ويطول الاسترسال في تعداد مظاهر هذا الزمن وعلاماته من ناحية توصيف الهزيمة والانكسار.

وفي المقابل؛ فإنّ التاريخ سجّل قديماً وحديثاً دون استثناءات تذكر؛ بأنّ الأحوال لا تبقى على ما هي. فالأيام دُوَل، ولا بد لكل صاحب حق مثابر على استرجاعه، مسلّح بإرادة وعزيمة تقوِّيان من صموده؛ من أن يصل إلى مبتغاه. وسرعان ما تنقلب أمامه الهزيمة إلى نصر، وإن طال الزمن. وفي طريق استرجاع الحق الكامل يتراكم المجهود في اختراقات هنا وهناك، في عصور متتالية حتى يكتمل مشهد النصر.

ويبرز الأسرى الفلسطينيون والعرب الأبطال في سجون العدو، طوال حقبة الاحتلال، كأحد أهم الاختراقات في زمن العلوّ الصهيوني. فهم من أسباب بقاء القضية حيّة، وقد ساهموا في استمرار حركة العصيان الشعبي والرفض لواقع الهزيمة والطغيان. بل ويُنسَب إليهم مسلسل عمليات المقاومة البطولية في مراحل عدة ودون انقطاع، أملاً في تحريرهم. وقد كان للحركة الأسيرة فاعليتها في دوام الشعب الفلسطيني والعربي في استحضار عذابات المحتل، من خلال آلام الأسرى والأسيرات، القابعين والقابعات خلف قضبان السجون.

وجاء في هذا السياق أسر الجندي الصهيوني جلعاد شاليط من قبل المقاومة الفلسطينة، والاحتفاظ به ما يزيد على السنتين لغاية الآن واشتراط خروج الأسرى بأعداد كبيرة ثمناً لإطلاقه. ويوازي هذا صفقة تبادل الأسرى، التي نجحت المقاومة اللبنانية عبرها في تحرير الأسرى اللبنانيين وعلى رأسهم عميد الأسرى العرب سمير القنطار. هذان نموذجان كسرا معادلة لطالما أرادت قيادة الاحتلال فرضها، بأنها التي تحدد الشروط وتفرض الحقائق. فالمقاومة هي التي تضع الأجندة الآن، وبما يؤشر لتحوّل في معايير الصراع، يسُجّل لصالح مشروع الصمود والمقاومة العربية في زمن يفترض فيه الخنوع والاستسلام لجموع الشعب العربي.

إنّ ما أظهره عميد الأسرى العرب سمير القنطار من رباطة جاش أمام الكاميرات، وبعد ثلاثين سنة من الأسر، لجدير بالتأمل. فكأنه يتمثّل في نفسه وبزهو مع تواضع الواثق؛ نموذجاً لشموخ الأحد عشر ألف أسير الذين يحمل نبضهم. وأرسل بذلك عشرات الرسائل وفي اتجاهات متعددة، بأنّ المشروع الصهيوني يحفر قبره بيده. فقد خرج القنطار شامخاً من ظلمة الأسر الذي يفترض أن يولّد استكانة وخنوعاً وانهياراً، خرج للدنيا مارداً مطوّقاً بالعزة والفخار، مؤذناً ببواكير النصر بإذن الله. وكأنه يقول للعدو: زمانك يقارب على الأفول. لا نبالغ إن قلنا إنّ تفاعل القنطار مع حدث التحرير قد ضاعف من حجم إنجاز التبادل نفسه، ويحق لنا أن نعدّه نصراً مؤزراً بهذا المعنى.

يبقى أنّ مثل هذه الانتصارات تكشف تفاقم الدور السلبي للرسمية العربية، التي أطالت من عمر المشروع الصهيوني، حتى لو ادعت غير ذلك مع عدم وضعها كلّها في سلة واحدة. وبالتالي هي ساهمت في ترسيخ مرحلة الهزيمة. والأحرى بالرسمية العربية وهي ترقب هذه الأحداث؛ أن تبدأ بإعادة حساباتها لصالح تصليب عودها أمام مشروع هزيل، لا يحتاج منها مجهوداً خارقاً لكي تعدِّل بعضاً من الموازين إزاءه.

ما يعنينا كشعب فلسطيني ومعنا تيار المقاومة في جسم الأمة العربية والإسلامية، ونحن في طريقنا لاستعادة حقوقنا كاملة غير منقوصة وعلى رأسها حق عودة اللاجئين إلى ديارهم؛ بأننا قد حُزنا كرامة أن نصل لبداية الزمان المنتظر لاستعادة هذه الحقوق. فحريّ بكل منّا أن يجد له دوراً إيجابياً في تكثير حالات التصدّع في جسم مشروع الاحتلال، ليحوز شرف دخول التاريخ في صف الظافرين الذين قلبوا الهزيمة إلى نصر.
 
رئيس التحرير