مجلة العودة

الشعب الفلسطيني المتفائل..

الشعب الفلسطيني المتفائل..
 
 
ياسر علي / بيروت
 
 

أي شعب يواجه الظلم الذي تعرّض له الشعب الفلسطيني، قد لا يختار طريق ذات الشوكة التي اختارها شعبنا.

في مسيرة القضية الفلسطينية، كلما هوى شهيد من شعبنا، أنبتت دماه آلاف المقاومين. الجنائز التي نمشي فيها تخرّج آلاف المتطوعين وتشكّل كتائب عسكرية جديدة. الحزن عندنا يجلب الزغاريد، فالشهادة عندنا أعراس، والعريس يُستشهد من أجل عروس اسمها فلسطين. الوصايا تتضمن نقل الرفاة إلى بلادنا.

ألسنا نحن من قال منذ خمسة وسبعين عاماً: «كنا نغني بالأعراس.. جفرا عتابا ودحية.. واليوم نغني برصاص.. عالجهادية الجهادية»؟!

سهراتنا، تتذكر الماضي. لكنها لا تنسى المستقبل.. نتحدث عن قرانا هناك، عن طريقة العودة، عن ليلة طويلة نهدم فيها المخيمات، ونُعدّ فيها ما خفّ حمله وغلا ثمنه. عن تَركِنا أشغالنا وأملاكنا وأموالنا في الشتات من أجل العودة بأسرع ما يمكن. عن بلاد سنعيدها لنعمرها، عن مشاريع تنمية. عن يوميات لم نعِشْها بعد. عن حياة نرسمها كل يوم في مخيلتنا الشاردة في المنافي. عن أعراس العودة التي ستتناوب عليها القرى والمدن التي سيؤمّها أهالي القرى والمدن الأخرى. عن حياتنا التي ستتغير، عن شكل نشاطنا الجديد بعدما عُدنا. وعن منشوراتنا، هذه الصفحات التي تقرأونها الآن لن يبقى اسمها «مجلة العودة»، ستصبح مجلة «ما بعد العودة» أو «أحوال العائدين». عن أعمالنا القادمة وفعالياتنا ونشاطنا السياسي. عن أبنائنا الذين سيكبرون ألف عام حين يلتحمون بتراب فلسطين. عن كبارنا الذين سيعودون لطفولتهم حين يشمون رائحتها على هذه الأرض.

أشهد أننا سنعايش ملحمة يكتبها التاريخ؛ «ملحمة العودة».

 
 

من تجربتي الشخصية، أذكر أيام الطفولة في مخيم تل الزعتر، الذي كانت حدوده هي أطراف العالم بالنسبة إليّ. وبعد حصار دام 52 يوماً، ومجزرة كبيرة شاهدنا بعض فصولها، خرجت طفلاً يعرف ما يجري حوله، ويدرك تخلّي العالم عنه، قال لنا الكبار: «ليست هذه المرة الأولى التي يتخلى العالم عنا»؛ فقد خرجوا من فلسطين وسط تخلي العالم عنهم. في تل الزعتر تعلمت الحياة في قلب الموت، واصلبّتْ أعوادُنا على قصف يسقط على منزل يتبعه صراخ وعويل وجنازة شهيد. نذهب نحن الأطفال بعد انفضاض الجمع عن المقبرة، لنزورها ونُغرق النظر في التراب فوق ذلك الشهيد الذي كان بالأمس بيننا.

من مخيم منكوب، إلى مخيم آخر، من الصفيح والطوب، لنتابع مسيرة التفاؤل في مخيم برج البراجنة. حيث عشنا في الأزقة والحارات المسماة بأسماء القرى من غير قرار، فالعائلات تتجمع مع الأقارب وأبناء البلد.

بعد ست سنوات من مجزرة تل الزعتر، حدث الاجتياح الإسرائيلي، فتشردنا، وحدثت مجزرة صبرا وشاتيلا، لكننا عدنا لنتابع تفاؤلنا.

بعد ثلاث سنوات من الاجتياح، اندلعت حرب المخيمات، فخرجنا من جديد.

 
 

عند كل خروج جديد، كنا – بفعل التفاؤل- نجدد العهد. فقدنا أوراقنا الثبوتية أكثر من مرة، لكن قلوبنا وجذورنا كانت قلوباً (وليست أوراقاً) ثبوتية مختومة بختم فلسطين. في كل مرة كنا ننفض الغبار عن خريطة فلسطين. نجلب خريطة جديدة، وهذه الخريطة الممتدة كالعروس من البحر إلى النهر، ومن الناقورة إلى أم الرشراش، لم تنقص ملمتراً واحداً. تحفظها الأجيال وتحمل أمانتها جيلاً عن جيل.

من أين يأتي كل هذا الإصرار على العودة، وإكمال طريق النضال؟ ولماذا كلما تراجع فريق عن طريق فلسطين ظهر فريق جديد يتسلم الزمام؟ كيف يخرج دائماً من بين الركام رجال بهمم أعلى من سابقيهم؟ من أين تأتي وسائل القتال والصمود لشعبنا، وآخر هذه الوسائل هي تلك الليلة البيضاء في العالم الافتراضي، حيث حقق الشباب العربي انتصاراً كبيراً على العدو فيها؟!

 
 

إنه التفاؤل. الإيمان بالنصر. الإيمان بأنّ «آلام المخاض لا تلغي حتمية الولادة». الإيمان بأن «أحلك ساعات الليل هي التي تسبق الفجر». الإيمان بـ«اشتدي أزمة تنفرجي.. هل بعد العسر سوى الفرج». الإيمان بـ«هيهات نور الله أن تطفيه كيد عصابة حمقى من الصبيان». الإيمان بأن الله قد اختارنا لهذه المهمة، وأنه كفيل بنصرنا. الإيمان بمصدر قوتنا. الإيمان والثقة بالنصر. وأن كلتا الحسنيين نصرٌ لنا.

متفائلون، لأننا أمل العالم. لأننا الذين نتصدى لمهمة قيادة التاريخ والحاضر نحو المستقبل. ليست حربنا مع الصهيونية حرب تحريك، ولا حرب تفاوض، ولا حرب حدود، ولا حرب وجود. إن حربنا هي امتداد الخط الذي بدأ منذ فجر التاريخ، حيث ارتسم عمودا الحق والباطل وسلسلتا العدل والظلم، وكنا نحن حلقة هذه الحقبة في السلسلة... وهي مهمة شاقة، ولكنها تستحق التضحية من أجل هذه البشرية.

لذلك، نحن لا نبالغ في تفاؤلنا، ولا في نظريتنا. ومن أجل هذه المهمة الصعبة والمصيرية، نتسلح بالإيمان والتفاؤل.

 
 

إذن هي حرب، بين الشعب الفلسطيني المتفائل المؤمن بالنصر، في مواجهة العدو الصهيوني المتشائم المتشكك بمصيره، وعلى المتشائلين والمتفائلين أن يحسموا خياراتهم، بالاصطفاف إلى جانبنا.

تفاءلوا بالنصر والعودة، تجدوهما.

ملاحظة: من وجوه التفاؤل، أنني تلقيت بطاقة دعوة لحفل توزيع كتابي عن قريتنا في فلسطين «شعَب وحاميتُها»، وذلك في قلب القرية، حيث ستؤدي تكنولوجيا التواصل دوراً في وصل ما انقطع منذ 65 عاماً.