مجلة العودة

خمسة وستون عاماً ولا تزال النكبة مستمرة

خمسة وستون عاماً ولا تزال النكبة مستمرة


ابراهيم العلي - صيدا


هو عام آخر يمضي من عمر نكبة فلسطين وقضية اللاجئين، وها نحن نقترب من دنوّ أجل القضية إلى الأبد، بعد أن لاحت في الأفق بوادر النصر والتحرير.
لقد أطلق المؤرخون على يوم الخامس عشر من أيار 1948 يوم النكبة الفلسطينية، نظرا ً إلى ما نتج منه من مآسٍ وكوارث ألمّت بأبناء الشعب الفلسطيني، المالكين الحقيقيين لفلسطين، عندما صعَّد الكيان الصهيوني من عملياته الهادفة إلى إفراغ فلسطين وترحيل أهلها وتهجيرهم دون الالتفات إلى الوسيلة، فارتكب جميع أشكال الإرهاب والترويع، وقام بالعديد من المجازر وعمليات التقتيل، ومارس ضده أكبر عملية ترحيل جماعي نجم عنها تشريد نحو 58% من أبناء الشعب الفلسطيني.
لقد توالت السنون على اللاجئين الفلسطينيين في أماكن لجوئهم، وعاشوا الأمرّين فيها، بعدما وجدوا أنفسهم  أمام واقع سمتُه الفقر والتشرد، ووقوده عرقهم ودماؤهم ودماء أبنائهم التي نذروها لرسم طريق التحرير والعودة إلى وطن ٍعاش فيهم قبل أن يعيشوا فيه.
والمتتبع لرحلة اللجوء الفلسطيني في مختلف محطاتها، وعلى امتداد التوزع الجغرافي للاجئين، لا يكاد يجد محطة تخلو من المعاناة والبؤس، وإن شابها طيب المعاش أحياناً، وكأنّ المؤامرة بحقهم مستمرة؛ فلا يجب السماح للاجئ بالراحة ولا التفكير ولا التطوير؛ لأن ذلك سيمهد الطريق ويقصر المسافة نحو وطنه الذي ما زالت روحه تصبو إليه.
فها نحن اليوم أمام محنة جديدة بعد محنة اللاجئين الفلسطينيين في العراق الذين صار أغلبهم إلى جهات الأرض الأربع، نتيجة أعمال العنف الطائفي الذي ألمّ بهم بعد الاحتلال الأميركي للعراق. محنة تعصف بنحو نصف مليون لاجئ فلسطيني في سورية، يُحاصَر في مخيماتها من يُحاصَر ويُهجَّر فيها أكثر من ثلاثمئة ألف لاجئ، ويقضي تحت القصف والقنص والتعذيب قرابة ألف وثلاثمئة شهيد بين شاب وشيخ وطفل وامرأة، وتفقد آلاف الأسر منازلها التي كانت تؤويها داخل المخيمات، ويلجأ من استطاع إلى دول الجوار؛ فقد قُدرت أعداد من دخل إلى لبنان بأربعة وثلاثين ألف لاجئ، يعيشون مرارة العيش وذلّ اللجوء في مراكز الإيواء والخيام من جديد، وكذلك الحال بمن تجاوز الخطوط الحمراء التي رسمتها الحكومة الأردنية أمام اللاجئين الفلسطينيين من سورية، ودخل إلى الأردن عنوةً، ليجد نفسه محتجزاً في سكن "سايبر سيتي"، حيث لا يُسمَح له بالخروج إلا ضمن قيود وكفالات تلزمه بالرجوع إلى السكن.
ولو تقفينا أحوال اللاجئين أكثر، لكانت شواهدنا على معاناتهم أكثر. فإلى اللحظة، لا يزال اللاجئ الفلسطيني في لبنان محروماً حقوقاً أساسية كفلتها التشريعات الدولية والإنسانية والمحلية، كحق العمل وحق التملك. وإذا توجهنا صوب دول الربيع العربي، نجد أن بضعاً وعشرين عائلة فلسطينية تُمنَع من الدخول إلى ليبيا، وتقيم في مدينة مرسى مطروح على الحدود المصرية الليبية، بانتظار السماح لها بالدخول. وإلى غير بعيد من هناك، نجد ثلاث عائلات فلسطينية وعازبين في مخيم الشوشة على الحدود الليبية التونسية ضاقت بهم تونس واستثنتهم المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، فأصبحوا فريسةً لقيظ حر الصيف وقرّ برد الشتاء؛ فالنكبة مستمرة، واللاجئ الفلسطيني ما زال يدور في دوامتها ويمشي على ذات الطريق الذي مشاه أبوه وجده قبل خمسة وستين عاماً.
إن التضييق المتعمَّد على اللاجئين الفلسطينيين في دول اللجوء، لدفعهم نحو التفكير في الهجرة أو التنازل عن حقهم في العودة إلى ديارهم، لم ولن يؤتيَ أُكله؛ فمفهوم هذا الحق بات أكثر رسوخا ًوتعظيماً وتقديساً، وأصبح معنى انتمائهم إلى فلسطين أشدّ فهماً وإدراكاً. كذلك إن احتياجاتهم للعودة إلى داخل مدنهم وقراهم أصبحت أكثر إلحاحاً؛ لأنّ المحن علمتهم ما معنى أن يكون للإنسان وطن، وأذهبت عن أبصارهم الغشاوة التي دأب بعض المراهنين على فرضها عليهم، وأجابتهم عن الكثير من الأسئلة التي كان يشكك البعض في صدقية أجوبتها. فالفلسطيني اليوم يعلم أكثر من ذي قبل فحوى وصية والديه بالتمسك بحق العودة، وعرف حقيقة أمنياتهما تلك، وأيقن فعلا ًأنهما كانا سيعودان مشياً أو زحفاً إلى فلسطين، لو سنحت لهما الفرصة، واستشعر صدق العشق لتلك الأرض الذي بلغ مبلغ أن يوصي اللاجئ بنقل رفاته إلى مقبرة قريته هناك.
فها هم أبناء اللاجئين أكثر تمسكاً بحقهم في العودة إلى فلسطين؛ لأنهم أدركوا أن لا كرامة للإنسان بعيداً عن وطنهم، ولا ثمن يعادل ذلك الحق. فاليوم أصبح الحفيد أكثر تمسكاً بوصية جده، وأكثر حرصاً على تنفيذ عهده ووعده له، ويقدم اعتذاره له إن أخطأ فهمه أو كاد.♦